13 April, 2025

“ذاكرة المنفى”.. عندما يكتب اللاجئ عن وجع 2374 يوما من الإبعاد

عاطف دغلس

يقول الكاتب والناشط الفلسطيني تيسير نصر الله إنه وجد ضالته في لبنان، لتقارب البيئات وتواجد الفلسطينيين هناك؛ مما مكنه من الانخراط في العمل النضالي الذي فقده بإبعاده لتونس رغم رحابة شعبها وطيبته، “لكني لم أجد بيئة حاضنة للمناضل، ولذلك كان الخيار ليبيا ومعسكرات الفدائيين”.

هذه المرة الأولى التي يتاح لي فيها ركوب الطائرة، بل هي المرة الأولى التي سأغادر فيها فلسطين، كنت أتمنى لو أنني أستطيع مشاهدة جبالها وسهولها وقلعة قاقون، حلقت الطائرة عاليا، وما زالت أعيننا معصوبة بقطعة القماش، وكذلك أيدينا خلف ظهورنا ومقيدة بالأصفاد”.

ذاك مشهد المنفى، خط كلماته الفلسطيني تيسير نصر الله في كتابه “ذاكرة المنفى.. 2374 يوما من الإبعاد”، ويصف بها اللحظات الأولى التي عاشها وهو يبعد عن وطنه مع أسرى آخرين في أوج انتفاضة الحجارة عام 1989، محاولا الوقوف عند قضية عاشها ولا يزال الشعب الفلسطيني بأسره واتخذتها إسرائيل عقابا فوق العقاب ضده.

بعد ثلث قرن يكتب نصر الله (61 عاما) -وهو عضو المجلس الثوري بحركة التحرير الوطني (فتح)- سيرة ذاتية اختلفت عن غيرها بأنها مرحلية، إذ أرخت لفترة أرادها الكاتب لأهميتها من ناحية، ولتكون دعوة للآخرين من قادة وسياسيين لتسجيل تجاربهم، لا سيما تلك المتعلقة بالمنفى من ناحية أخرى.

وفي كتاب من 150 صفحة من القطع المتوسط، وصدر مؤخرا عن دار طباق للنشر بمدينة رام الله بالضفة الغربية؛ يسرد نصر الله بأسلوب قصصي حكاية إبعاده التي امتدت 6 سنوات (1989-1995) عاشها في المنفى متنقلا بين دول عربية وأوروبية، ومثقلا بهموم ومعاناة بان بعضها في الكتاب وأخرى أخفاها قصدا.

نصر الله كتب سيرته الذاتية بلغة بسيطة فهو سياسي وليس أديبا (الجزيرة)

بين الوطن والسجن والمنفى

وفي الثلث الأول من الكتاب يستبق نصر الله إبعاده بعملية اعتقاله مع آخرين على يد الاحتلال، وعن التعذيب داخل السجون الإسرائيلية الذي وصل إلى حد “الإخصاء”، ويعنون ذلك تحت “ليلة الاعتقال الأولى” و”ليلة في خيام المقاطعة” وأبرزها “فشل محاولة الهروب” ويقول “حاولت الهروب وعدم تسليم نفسي، لأن الأفضل لي ألف مرة أن أبقى حرا طريدا على أن أسجن يوما واحدا”.

والملفت في “ذاكرة المنفى” أن كلمات نصر الله بسيطة وبلسان اللاجئ المنفي في مخيمه ويغمره الشوق وحنين العودة لبلده.

وفي كتابه يشعرنا نصر الله بقسوة الإبعاد ومراراته، لا سيما وهو المنفي في مخيم بلاطة للاجئين (شرق نابلس) الذي هجرت إليه عائلته قسرا من قريتها قاقون داخل فلسطين المحتلة خلال نكبة عام 1948، حيث ولد بالمخيم وعاش مثل اللاجئين بؤسا وقهرا.

وهنا يقول عاطف أبو سيف وزير الثقافة الفلسطيني الذي قدم لكتاب “ذاكرة المنفى”: كأن نصر الله لا يريد أن ينسى، ويريد أن “يواصل الإصرار على ذاكرة المنفى بالإمساك بتفاصيل المكان والحنين إلى الموطن الأول”.

وتميز سرد نصر الله بالتتابع أيضا، وانطلق من لحظة اعتقاله وكيفيتها، ثم أحوال الأسرى ومعاناتهم، وصولا لحاله مبعدا قسرا عن وطنه، وتنقله بين دول عدة، بعضها رحبت به وأخرى نفته لنشاطه السياسي، لتكون والاحتلال سيان.

يقول نصر الله في حديثه للجزيرة نت إنه وجد ضالته في لبنان، لتقارب البيئات وتواجد الفلسطينيين هناك، مما مكنه من الانخراط في العمل النضالي الذي فقده بإبعاده لتونس رغم رحابة شعبها وطيبته، “لكنني لم أجد بيئة حاضنة للمناضل، ولذلك كان الخيار ليبيا ومعسكرات الفدائيين”.

الإبعاد مر

ولم يكن الإبعاد مأثرة للفلسطيني، بل “إعدام” كما يصفه نصر الله الذي ماطل في جلسات محاكمته ليطول أمد سجنه بوطنه وأرضه، “وعندما أبعدنا لقبرص عبر باخرة أفرغت حمولتها بلبنان قيل لنا إننا سنمر بالقرب من زوارق إسرائيلية قبالة ميناء صيدا ويخشى اعتقالنا، فتمنيت لو اعتقل وأعاد للسجن ثانية بأرضي”.

ويلجأ الاحتلال للإبعاد بهدف إفراغ الأرض من قياداتها إذا فشل في السيطرة على الحالة النضالية، وهنا يقول نصر الله إن الاحتلال جرب معهم كل العقوبات من اعتقال وجرح وإقامة جبرية، فكان الخيار إما القتل أو الإبعاد من دون عودة، “وبهذا تنفيه من ذكرياته وأرضه وتقتل ثورته، كالشجرة عندما تخلع من جذورها”.

واستخدمت إسرائيل سياسة الإبعاد نهجا عقابيا للفلسطينيين، فأبعدتهم فرادى وجماعات ولا تزال، وشهد “مرج الزهور” (جنوبي لبنان) إبعادا جماعيا لأكثر من 400 من عناصر وقيادات حركتي المقاومة الإسلامية (حماس) والجهاد الإسلامي عام 1992، وسبق ذلك الإبعاد الأكبر في نكبة عام 1948 وتهجير نحو 700 ألف فلسطيني.

ما تذكر!

ولم يغفل نصر الله عن ذكر تفاصيل عاشها بمنفاه كبيرة وصغيرة، فتحدث عن عمله التنظيمي ولقائه قادة دول ورموزا فلسطينيين مثل ياسر عرفات وصلاح خلف ونايف حواتمة وأسرى مبعدين.

إضافة إلى دراسته الجامعية وزواجه وفرحه بميلاد طفلته وإصراره على توثيق اسمها في سجل الأحوال المدنية الفلسطينية، كما لم ينس علاقاته الاجتماعية ورحابة من نزل عندهم ضيفا، فتحدث عن الأكل التونسي وعنون ذلك بـ”حي المنار2″.

ورغم ذلك وجدنا نصر الله الذي كتب بلغة بسيطة مستوحاة من واقع التجربة يقفز من حادثة لأخرى من دون تفصيل، خاصة أنه يروي سيرة ذاتية، وهذا أحد “عيوب” الكتاب كما يقول، سيحاول تجاوزها في الطبعة الثانية.

ويبرر ذلك قائلا إنه اعتمد على ذاكرته فقط كونه لم يوثق خطيا مجريات منفاه، كما لم يجد ما يروي ظمأه من كتابات الآخرين أمثاله ليعتمد عليها.

وأمام هذا فهو يرى أن “ذاكرة المنفى” تسجيل لتجربة ومرحلة مهمة يناط بكل من عاشوها سردها، وهو ما يشجعه عليه الوزير عاطف أبو سيف بقوله “كتاب نصر الله شهادة حية، لعله يكون دعوة للقادة والسياسيين لأن يسجلوا تجاربهم الذاتية، حتى تكتمل جوانب تاريخنا المعاصر”.

فلسطين- الضفة الغربية- نابلس- نيسان- 2018- الدكتور عادل الأسطة الكاتب والناقد الفلسطيني رأى أن الأغنية الفلسطينية مستهدفة لكونها شكل من اشكال المقاومة- تصوير عاطف دغلس- الجزيرة نت6الناقد الفلسطيني عادل الأسطة يرى أن “ذاكرة المنفى” وإن كتب بلغة “متقشفة” فإنه يبقى مهما لحفظ الذاكرة الفلسطينية (الجزيرة)

من يكتب أفضل؟

وسيرة نصر الله “جزئية” وتذكر قارئ الأدبيات الفلسطينية بأدبيات فلسطينية أخرى، ومنها أعمال عديدة لمعين بسيسو ومحمود درويش، اللذين كتبا سيرا لفترات من حياتهما، كما يقول الناقد الفلسطيني عادل الأسطة.

ولكنهما -في رأي الأسطة- كتبا بلغة الأديب الشاعر الممتلك للغة الكتابة التي تحفل بالصور، وهو ما تفتقده لغة نصر الله السياسي غير المحترف أدبيا، ويضيف أن “ذاكرة المنفى” وإن كتب على عجل وبلغة “متقشفة” فإنه يبقى مهما للحفاظ على الذاكرة الفلسطينية، كما كتب محمود درويش “من يكتب حكايته يرث أرض الكلام ويملك المعنى تماما”.

قبل “ذاكرة المنفى” صدر لنصر الله “انتفاضة الجوع”، وتناول فيه إضراب الأسرى عن الطعام عام 1987، ويقول إنه يعد للكتابة عن أشياء أخرى فلديه الكثير.

المصدر : الجزيرة
الرابط المختصر ||https://palfcul.org/?p=3958
Font Resize