حسين بن حمزة
ما أن يبدأ القارئ برواية “زهر القطن” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2022) لخليل النعيمي، حتى يشعر بأنه مدعوٌّ إلى عالم شديد الخصوصية، إذْ تجري أحداث الرواية في بادية الشام وفي مناطق الحَماد المتاخمة لبراري منطقة الجزيرة السورية.
الأحداث قليلة على أي حال، والشخصيات كذلك، بينما المساحة الأكبر والأهم متروكة لوصف تلك البيئة المُراوغة وأعرافها غير المكتوبة، مناخاتها القاسية صيفًا وشتاءً، كائناتها التي اعتادت شظف الحياة وقسوة الطبيعة المتشابهة بنباتاتها وحيواناتها وتفاصيلها البرية والصحراوية، والأهم علاقات البشر هناك القائمة على الكرم والصمت والحكمة والحذر والخوف وعزة النفس وغيرها من المفردات التي تلعب دورًا جوهريًا في صناعة المواقف والقرارات في البقاء أو الرحيل. لغة الرواية نفسها وأسلوبية كتابتها وبعض مفرداتها تُعزّز هذا الشعور لدى القارئ، فهي مدعوّة أيضًا إلى مجاراة العالم القاسي والفريد الذي تجري فيه أحداث الرواية، والمؤلف نفسه يُدرك أهمية أن تساهم اللغة في كتابة تفاصيل ومشهديات ذاك العالم الذي عاش فيه طفولته كابنٍ لعائلة من البدو الذين اعتادوا التنقل المستمر من مكان لآخر في البادية بحثًا عن ظروف معيشية أفضل.
“لغة الرواية ستأخذ القارئ معها داخل نبرتها وحساسيتها التي تجمع بين فصاحة لغوية مطلوبة لمجاراة العالم الذي تجري فيه الرواية، وبين فصاحة وصفيّة وتصويرية تقترحها بيئة الرواية نفسها”
هكذا، تنفتح الرواية منذ بدايتها على مشهد العائلة الصغيرة التي وصلت قبل يوم واحد إلى مكانٍ تم استقبالهم واستضافتهم فيه، وها هم يستعدون للمضيّ مجددًا. الأب على حصانه، والمُضيف ممسكٌ برسن الحصان ويحاول إقناع الأب بالبقاء أكثر. المشهد فيه شيء من السينما، واللغة فيها شيءٌ من روح المكان، والكادر هو البادية المفتوحة على الاحتمالات، والحوار بين الرّجلين مختصرٌ بين سخاء المُضيف وبين حرج وتردّد الأب في البقاء، ولكنه يبقى في انتظار انتقال جديد.
ليس القصد هنا أن نُلخّص ما يحدث، بل لنشير إلى اللغة التي وجد خليل النعيمي أن روايته ستحتاجها فيما لو أراد أن يعود إلى طفولته ونشأته في البادية السورية. وهي لغة ستأخذ القارئ معها داخل نبرتها وحساسيتها التي تجمع بين فصاحة لغوية مطلوبة لمجاراة العالم الذي تجري فيه الرواية، وبين فصاحة وصفيّة وتصويرية تقترحها بيئة الرواية نفسها. هذا المزيج هو الذي يُحسّس القارئ بأن عليه نسيان أو مغادرة ما يعرفه وما يتوقعه من الرواية عمومًا، وأن ينتقل – كما هو حال شخصيات الرواية – إلى بيئة روائية أخرى ولغة سردية أخرى.
“الرواية نفسها مقسّمة إلى قسمين، في الأول يحضر الأب، وفي الثاني يحضر الابن. وفي القسمين نقرأ ما يحدث من وجهة نظر الابن/ المؤلف الذي يُخضع سيرته وسيرة أبيه إلى كتابة ثانية، إلى كتابة أدبية وسردية”
مع التقدم في القراءة سيُدرك القارئ أن الراوية تكاد تكون سيرة أولية وحقيقية لطفولة الروائي السوري ونشأته في تلك البيئة البدوية التي قادته فيما بعد إلى مدرسة بدائية في ريف مدينة الحسكة (مركز المحافظة) أنهى فيها الشهادة الابتدائية، ثم إلى مدرسة ثانوية في المركز نفسه، وبعدها إلى الجامعة في دمشق العاصمة، حيث سيتابع دراسته في كلّيتي الطب والفلسفة.
تنتهي الرواية بخروج بطلها (المؤلّف نفسه) من سورية عن طريق بيروت، ولكن قبل ذلك علينا أن نقرأ تلك العوالم البرية المكتوبة بلغة يحاول المؤلف أن يُجاري مكنوناتها وطبائعها، حيث نجد أنفسنا مدعوّين إلى “مَضَافة” سردية يقترحها صاحب “الخُلعاء”، فنضع ما نعرفه عمومًا عن عوالم الروايات جانبًا، وننغمس في بيئة بدوية وشخصيات محكومة بالتنقل والتجانس مع طبيعة المكان المُتزعزعة والرجراجة. يبدأ ذلك كما قلنا منذ أول صفحة. البيئة تختلف. اللغة تختلف. وصف الشخصيات يختلف. كتابة الحوارات القليلة والسرديات المرافقة تختلف. كل ذلك يحدث بسبب اللغة والمكان، بل بالأحرى بسبب اللغة التي يتطلّبها المكان ويفرضها على الكاتب وعلى حكايات المكان وعلى نصّه الروائي أيضًا. إنها لغة تشبه نباتات المكان التي تطبّعت بمناخ المكان، وتشبه كائنات المكان التي تعلمت من المكان القوة والصبر والحكمة. والحكمة هنا ستلتصق بالأب ونباهته وخبرته وينتقل تأثيرها إلى الابن من خلال مواقف وحالات يكون حاضرًا فيها. الحكمة هي التي ستجعل الأب مصممًا على أن يدخل ابنه المدرسة ويتعلم. وفي مشهد مؤثر يمتطي الابن الحصان خلف أبيه، وعلى باب المدرسة يربط الأب الحصان ويدخلان لتسجيل ابنه. الابن يبقى في المدرسة والأب يعود إلى الخيمة. لعل المشهد هنا يصنع ذاك الفارق بين عالمين، عالم الأب المتنقل كأي بدويّ، وعالم الابن الذي سيلتحق بعالم ثابت. والرواية نفسها مقسّمة إلى قسمين، في الأول يحضر الأب، وفي الثاني يحضر الابن. وفي القسمين نقرأ ما يحدث من وجهة نظر الابن/ المؤلف الذي يُخضع سيرته وسيرة أبيه إلى كتابة ثانية، إلى كتابة أدبية وسردية. إنها سيرة إذًا، ولكنه مروية الآن بضمير العارف ووجهة نظر من يعود إلى الماضي بهدف إعادة كتابته وتقديمه كسيرة ذاتية وروائية أيضًا.
المصدر: الحياة الجديدة
رابط مختصر|| https://palfcul.org/?p=6000