عثمان أمكور
يشهد واقع اللجوء الفلسطيني في الدول العربية قسوة كبيرة بفعل الظروف الاقتصادية، التي تمر بها الدول العربية المضيفة، هذا الشعور يمكن أن يتفاقم بفعل الإحساس باليأس السائد بين اللاجئين الفلسطينيين بفعل شعورهم بأن العالم تناساهم، تصف الشاعرة والناشطة الفلسطينية الأميركية سهير حماد حالة اللاجئين الفلسطينيين قائلة “كل يوم تموت والعالم يراقب بصمت، كأن موتك لا شيء، كأنك حجر يتهاوى على الأرض”.
كان المهاجرون الذين سافروا إلى الخارج لإيجاد فرص اقتصادية، يرسلون التحويلات المالية إلى فلسطين وإلى مخيمات اللجوء من أجل تخفيف وطأة الفقر المدقع عقب السنوات الأولى التي تلت نكبة 1948. شكل هؤلاء المهاجرون جزءا لا يتجزأ من الشتات الفلسطيني. ورغم تكثيف البحث حول الفلسطينيين الموجودين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، فإن الشتات الفلسطيني المترامي يقوم بدور أساسي في بقاء المجتمع الفلسطيني، وهنا توظف الأكاديمية نادية الحاج مصطلح الشتات بدل المهاجرين، بحكم ما تعرفه هذه الفئة من تفاعل مع العولمة والهجرة التي تسوق اللاجئين إلى تكوين شعور بالانتماء والاتصال العابر للحدود.
وفي هذا الصدد عمل فلسطينيو الشتات بجد للبقاء على قيد الحياة والتكيف مع الدول المضيفة الجديدة، وما ساعد على هذا التكيف، رغم مرارة الواقع، هي التحويلات المالية التي تصل للمخيمات؛ إذ سمحت لهم ببناء منازل أفضل، والحصول على تغذية، وإرسال الأطفال إلى المدارس، والحصول على رعاية طبية أفضل، الأمر الذي لا تقدمه الدول المضيفة أو وكالات الإغاثة بالشكل المطلوب.
هذا الأمر هو مكمن اهتمام البروفيسورة نادية الحاج المتخصصة في قضايا اللجوء الفلسطيني، إذ تهتم بالنهج الذي يتبعه اللاجئون الفلسطينيون في سعيهم لتطوير إستراتيجيات تعاونية لحل المعضلات الجماعية في الظروف القاسية التي يعيشون تحت وطأتها؛ وخاصة في خضم تضاؤل المساعدات الإنسانية ودعم الدول المضيفة، وتتعارض نتائج تلك الدراسة مع الزعم بأن التنظيم عبر الإنترنت غير مجد، وتؤكد الحاج بدلاً من ذلك على جدوى وفعالية الشبكات الرقمية.
فقد سلطت الضوء في أعمالها على كيفية دمج اللاجئين الفلسطينيين بين شبكات القرابة والأعراف المجتمعية، وامتد ذلك لاحقا عبر المنصات الرقمية لتحفيز التعاون المجتمعي داخل النسيج الفلسطيني في مخيمات اللجوء وخارجها، موظفة بذلك منهجا يجمع بين المقابلات المتعمقة واستطلاعات الرأي ورصد البيانات الرقمية، لتخلص الأكاديمية نادية الحاج إلى أن “المعاملة بالمثل” بين اللاجئين المتصلين بشبكات الإنترنت تولد تحويلات مالية تموّل السلع والخدمات العامة المهمة لمجتمع مخيمات اللجوء.
وهو ما سعت لتفكيكه عبر كتابين أصدرتهما؛ إذ جاء الأول تحت عنوان “الحماية وسط الفوضى: إنشاء حقوق الملكية في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين” (Protection Amid Chaos: The Creation of Property Rights in Palestinian Refugee Camps) الذي صدر عن مطبعة جامعة كولومبيا في عام 2016، وكتابها الآخر المهم والذي جاء تحت عنوان “اللاجئون الشبكيون.. المعاملة بالمثل الفلسطينية والتحويلات المالية في العصر الرقمي” (Networked Refugees: Palestinian Reciprocity and Remittances in the Digital Age) الذي أصدرته مطبعة جامعة كاليفورنيا عام 2021.
الكتاب الأخير يفكك مستويات الاتصال المتعددة التي تشكّل الهوية الفلسطينية العابرة للحدود، ويظهر دور الأعراف والقيم الفلسطينية المتمثلة في الولاء والشرف والصمود والعار، والتي تمثل العادات والتقاليد وتحوّلها -بفعل مقاطع الفيديو والصور وغرف الدردشة- إلى آلية تحفيزية لاستمرار تدفق التحويلات المالية إلى الموجودين في المخيمات؛ إذ توفر تحويلات المغتربين سلعا قيمة لمجتمع المخيم، وتملأ فجوة الحماية التي خلفتها الدول المضيفة وأحزاب النخبة السياسية ووكالات المعونة الدولية.
ومن أجل تقريب مضامين هذا الكتاب للقارئ العربي، حاورت الجزيرة نت الأكاديمية نادية الحاج حول مضامين كتابها الأخير، نترككم مع متن الحوار:
-
أشرتِ في الكتاب إلى شبكات فلسطينية تمتد جذورها لما قبل عام 1948، حيث كانت القرى والأسر الفلسطينية التي تعودت على وجود تغيرات ديناميكية، بارعة في إدارة وحل المعضلات، وهو ما امتد بعد النكبة حينما انتقل الفلسطينيون إلى مخيمات اللجوء، وأشرت أيضا إلى أن الأسرة والقرية ظلت لهما الأهمية نفسها في إبقاء الفلسطينيين على قيد الحياة، هل يمكنك شرح هذه الفكرة؟
لطالما امتاز الشعب الفلسطيني بالصمود بشكل لا يصدق، وذلك حتى قبل النكبة؛ لطالما اعتادت العائلات والقرى الفلسطينية على وجود أنظمة سياسية مختلفة، مثل الوجود البريطاني والعثماني في فلسطين؛ وهنا تمكّن المجتمع من البقاء بل وحتى الازدهار وسط هذه الحالة من عدم الاستقرار التي كان يشهدها قبل زمن النكبة. على سبيل المثال، وجدتُ أن الأهالي الفلسطينيين رغم ما كان يفصلهم من مسافات كبيرة قبل النكبة، فإنهم تمكنوا دائما من إعطاء قيمة كبيرة للروابط والعلاقات التي تجمعهم ببعضهم بعضا، ويمتد تثمين هذه العلاقات ليبلغ حالات الموت.
وجدت إحدى الحالات التي تنتمي لأوائل القرن الـ20 في أرشيف رجل فلسطيني سافر إلى أميركا الجنوبية بحثا عن العمل، وفي خضم رحلته مرض وتوفي، وهنا اختارت عائلته إقامة جنازة لتكريم روحه رغم البعد وعدم تمكنهم من الوجود بمقربة من جسده، حيث أدوا على روحه صلاة الجنازة، وتشاركوا وجبة الوضيمة (المقدمة من أهل الميت)، وهنا يظهر لنا جليا قوة الأسرة الفلسطينية رغم حالة عدم اليقين والبعد التي ترسخت بعد النكبة.
وهو الأمر الذي امتد بعد النكبة، ولكن قبل حقبة الإنترنت؛ أنشئت “كتب عن تاريخ القرى الفلسطينية” كانت مليئة بالقصص المجتمعية التي يتم توارثها عبر الأجيال والتي كانت تعيش في مخيمات اللاجئين، ترسخ هذه القصص العادات والتقاليد الفلسطينية، فهي تجسد كيف يجب على الفلسطينيين أن يعاملوا الآخرين في المصالح المالية والتجارية، وكيف يجب أن يساعدوا بعضهم بعضا في أوقات الحاجة والعوز، وكيف يقومون بدعم بعضهم بعضا عندما يواجهون تحديات جماعية؛ كانت قوة الأسرة والقرية أساسية للبقاء في مخيمات اللاجئين في السنوات الأولى. أما اليوم فباتت هذه المجتمعات تستخدم المساحات الرقمية، مثل صفحات فيسبوك للقرى، لمشاركة الصور والقصص التي تؤكد على العادات والتقاليد للفلسطينيين، سواء الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين أو الذين يعيشون في الشتات.
-
كيف ولدت الاتصالات الرقمية حركة نابضة بالحياة في العالم الحقيقي؟ كيف استخدمت صفحات فيسبوك الفلسطينية الصور ومقاطع الفيديو والقصص والذاكرة الجماعية لبناء روابط وإعادة إنتاج معايير الشرف والعار والولاء الفلسطينية؟ وما تأثير هذه القيم على النسيج المجتمعي الفلسطيني في مخيمات اللجوء؟ وكيف أثرت هذه القيم على الفلسطينيين من أجل حثهم على إرسال الحوالات المالية لسكان المخيمات؟
في البداية، عندما تعرفت على مجموعات فيسبوك المخصصة لأهالي القرى والفلسطينيين، تصورت أن هذه المجموعات ليست سوى مكان للتفاعل الجانبي؛ إذ يعد العالم الرقمي إلى حد كبير فضاء مجهولا بالنسبة لمعظم مستخدمي الإنترنت في جميع أنحاء العالم، فهي تتيح للمرء الاختباء خلف صورة رمزية وليعبّر كيفما يشاء، أحيانا بطرق تختلف تماما عما قد يتصرف به المرء في “العالم الحقيقي”.
ومع ذلك، فإن الصفحات والمجموعات الفيسبوكية المخصصة للقرى والعائلات الفلسطينية تعد مساحات تستدعي “سياقا عاليا” داخل هذا الفضاء. في الواقع، فإنه داخل هذه المساحات يعرف فيها الجميع من تكون، كما يعرفون جذورك وامتداداتك، فهم يعرفون أجدادك وأجداد أجدادك، ولأن هذا الفضاء يغدو فضاء معلوما بينهم (مساحة غير مجهولة)، يميل الناس إلى التصرف بطرق تتفق مع معايير نظم الشرف والعار والكرامة التي تنظم العالم الحقيقي.
بعد إجراء مئات المقابلات مع فلسطينيين يقطنون في المخيمات وحول العالم، وكذا استطلاع رأي فلسطينيي الشتات، وتحليل رقمي لبيانات صفحات ومجموعات فيسبوكية؛ وجدت أن انخراط الفلسطينيين في هذه المساحات يجعلهم أكثر إمكانية لإرسالهم التحويلات المالية والمساعدات نحو الأشخاص الذين لا يزالون عالقين في مخيمات اللجوء بشكل كبير، ومرد ذلك الأسباب التالية:
بحكم علمهم وإدراكهم أن إرسالهم لهذه الحوالات المالية هو الشيء الصحيح أخلاقيا، والذي يجب القيام به بناء على المفاهيم المقبولة وفقا للعادات والتقاليد، والرامية لضرورة تعليم الأطفال الفلسطينيين سواء كانوا يعيشون خارج فلسطين أو في مخيمات اللجوء.
كان الفلسطينيون يدركون أنهم مشاهدون من قبل مجتمعهم بأكمله، لأن الإنترنت وفرت مساحة “سياق عالية” للفلسطينيين في مجموعات القرى الموجودة على فيسبوك؛ على سبيل المثال، علمت عبر إحدى المقابلات التي أجريتها أنه إذا ما تم تجاهل سداد أحد الفواتير الطبية لأحد المسنين المنتمين للقرية، فإن المجتمع سينظر إلى الذي لم يساهم نظرة ازدراء، فتنصّل المرء من التزامه المجتمعي يجعل سمعته الشخصية وسمعة أسرته بأكملها عرضة للازدراء المجتمعي، كما يمكن أن تقل احتمالية قيام العائلات الأخرى بأعمال تجارية مع الممتنع عن إرسال الحوالات المالية للذين في مخيمات اللجوء أو حتى تثبيط مساعي الزواج الأسري.
ونظرا لطبيعة السياق العالي للمساحات الرقمية الفلسطينية، وقدرته على إنفاذ قواعده، دفعت التفاعلات عبر الإنترنت لتدفق الحوالات المالية في العالم الحقيقي.
وفي الوقت الذي تعاني فيه العديد من الدول المستقبلة للاجئين، وكذا نقص التمويل الذي تشهده وكالات الإغاثة، أو في ظل وجود من لا يرغب في تقديم الدعم المالي للفلسطينيين في مخيمات اللجوء، فإن تدفق حوالات الشتات نحو المخيمات أمر ضروري لبقاء هذا المجتمع على قيد الحياة، خاصة في ظل ما تعيشه هذه المخيمات في ظل وباء كورونا حاليا.
-
كيف تتدفق الأفكار السياسية الجديدة إلى المخيمات رغم وجود من أسميتهم “حراس البوابة الرقميين” الذين يراقبون الأعراف الاجتماعية الموجودة داخل مخيمات اللجوء الفلسطينية وكذا لدى فلسطينيي الشتات؟
خلال المقابلات المتعمقة التي أجريتها مع الشباب الفلسطينيين المتفاعلين بشدة مع بعضهم بعضا عبر المساحات الرقمية، علمت أن الشباب يجرون محادثات خاصة في غرف الدردشة التي تسمح لهم بالتحدث عن مواضيع قد تكون محرمة في العالم الحقيقي، على الرغم من أن هناك احتمالا لفرض قواعد المجتمع على صفحات فيسبوك نظرا لطبيعة “السياق العالي” الخاصة به، فإن غرف الدردشة الخاصة توفر مساحة لإجراء محادثات بديلة خارج نطاق مراقبة بقية المجتمع، في حين أن التحديات التي تواجه سرديات حماس أو فتح حول إقامة الدولة ستكون غير شائعة في العالم الحقيقي، يجري الشباب الفلسطينيون في الفضاءات الرقمية محادثة حيوية حول التنظيم والنشاط المجتمعي الذي يمتد من الأسفل إلى الأعلى.
يستكشف الشباب الفلسطينيون مثلا أشكالا من النشاط السياسي الذي يجمع بين ممارسات مجتمعات الشتات الفلسطيني في أميركا الجنوبية وأوروبا وأميركا الشمالية مع تجاربهم المعيشية الخاصة؛ على سبيل المثال، يتحدث الفلسطينيون في هيوستن وشيكاغو بشكل متكرر مع الفلسطينيين في مخيمات اللجوء؛ حيث يجرون محادثات حول التنظيم السياسي والتعبئة والحركة من خلال الأسرة والقرية والمجتمعات المجاورة، كما كانت محادثات الفلسطينيين حول أمور عديدة مثل إقامة دروس حول كيفية توثيق الظلم، وممارسات المقاومة اللاعنفية من خلال الإضرابات والمسيرات الصامتة، والاستخدام الإستراتيجي لوسائل الإعلام الرقمية للتواصل مع الصحفيين.
على الرغم من ظن البعض أن الفلسطينيين ينشطون سياسيا من خلال سردية فتح أو حماس في المقام الأول، فإن الواقع يثبت وجود العديد من المنظمات الشبابية والمجتمعية التي تقوم بالتعبئة والتحريك على مستوى الأحياء والقرية والأسر، أعتقد أن هذا يتضح أكثر عندما نلاحظ تلك الأعمال والجهود المجتمعية المنظمة التي حدثت في حي الشيخ جراح وغيرها من مجتمعات القدس الشرقية واحتجاجات التضامن عبر الوطنية التي تتكشف في المدن في جميع أنحاء العالم بين الشباب الفلسطينيين في الشتات. وهنا يمكن القول إن الإنترنت توفر مساحة يمكن للفلسطينيين من خلالها الاتصال عبر شبكاتهم العائلية وقراهم وتعبئتها بغية تحدي الظلم الحاصل على الفلسطينيين.