في حكاياتها اليومية لحفيدها الراوي في رواية “الصامت” كانت الجدة صفية تسرد قصصًا عن زوجها “المنسي” تمزج بين الواقع والخيال بطريقة غرائبية، تتحدث عن مآثره وكراماته التي يختص الله بها “بعض عباده الأنقياء المخلصين”، وعن سر البئر التي ألقي فيها، وما زال صوته يتردد منها، فروحه لم تفارق البئر رغم أن مصيره لا يزال مجهولًا، ليظل “لعنة” تطارد المحتل وتجعله يخشى مجرد الاقتراب من هذه البئر.
غزة – من “المنسي”؟ وهل هو حقيقة أم خيال؟ هل هو بشر من لحم ودم؟ أم إنه رمز لحالة نضالية فلسطينية ممتدة منذ عقود طويلة ولا تزال؟ وما سر البئر التي ألقي فيها بعدما وقع في شرك قوة إنجليزية، إثر معارك ضارية خاضها ضد الإنجليز والعصابات الصهيونية قبيل النكبة عام 1948؟
حكايات كثيرة مشوقة تارة، ومخيفة تارات أخرى، توارثتها أجيال وأجيال عن هذا المنسي والبئر العتيقة في قرية دمرة التي تعود إليها جذور عائلة الروائي الفلسطيني اللاجئ شفيق التلولي، صاحب رواية “الصامت” التي استمدت عنوانها من اسم الجد الأكبر للمنسي، الذي ورث عنه “القوة المباركة والشجاعة”.
في هذه الرواية، الواقعة في 176 صفحة من القطع المتوسط، تتأرجح قناعات القراء بين الواقع والخيال، حتى كان لبعضهم مقاربة بين حكاية المنسي وقصة يوسف عليه السلام، غير أن المنسي لا يزال مظلوما ومصيره مجهول يتردد صدى صوته من أعماق البئر، ولا يزال ينتظر الخلاص ليس لنفسه، وإنما لشعبه الذي تتقاذفه احتلالات تلو أخرى.
خيط الرواية
اتخذ الروائي التلولي في روايته “الصامت” رموزا من البئر وشجرة الجميز الشهيرة في أرض فلسطين التاريخية؛ دلالات لتتبع جذور أسرة الصامت، الجد الأكبر لهذه الأسرة، الذي خلف لأبنائه وأحفاده “مخطوطة” ارتكزت عليها حبكة الرواية.
يريد التلولي أن يقول إن فلسطين لم تكن يوما أرضا جرداء خالية من البشر والحجر والشجر، وإنما كانت تنبض بالحياة التي استكثرتها قوى الاستعمار على شعبها الطيب المسالم، وفي تتبعه لتاريخ عائلة فلسطينية يعود نسبها إلى “الصامت” الذي اشتهر عنه أنه أحد الأولياء الصالحين في القرن الـ18 تدحض الرواية مزاعم إسرائيلية بنيت عليها نكبة الفلسطينيين بأن “فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
وتتحدث الرواية عن تاريخ فلسطين منذ العهد العثماني، مرورا بالانتداب البريطاني إلى واقع الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ 74 عاما، وعلى مدار هذه العقود يعيش الفلسطينيون مآسي من الظلم والتهجير، وحلقات لا تنتهي من المعاناة اليومية، لم يغفلها التلولي وسرد كثيرا منها بسلاسة في ثنايا الرواية، وكان لأزمات غزة الحالية النصيب الأكبر من هذا السرد.
سر المنسي والبئر
المقاربة والتماس بين حكاية المنسي وقصة يوسف عليه السلام أراد منها التلولي بقاء جذوة الأمل متقدة في النفوس، من دون أن يذكر ذلك صراحة. فكما أن يوسف انتصر على ظلم أقرب المقربين له من إخوته الذين ألقوه في الجب، وتربع على عرش مصر، فإن المنسي وهو هنا “رمز للفلسطيني المقاوم” سينتصر في النهاية على قوى الظلم والاستعمار، ولن تفلح محاولات دفنه في البئر.. هذه البئر سواء كانت قبرا أو سجنا.
“وقتئذ تزول اللعنة، إنها اللعنة التي جعلتنا كلنا لاجئين، وجعلت هذه الحكاية ممكنة، ونريد أن نصدقها ونجد المخطوطة”، وفي ذلك يتفق أبو سيف مع ما أراده التلولي في روايته، وينطبق عليه المثل الشعبي “لا يضيع حق وراءه مطالب”، وعودة الفلسطيني واسترداده لحقه في بلاده المسلوبة حتمية ما بقيت أجياله تتوارث “الحب والمقاومة”، كحال “الجدة صفية” وحكاياتها الدائمة لأحفادها عن المنسي وشجاعته ومقاومته.
ففي حكاياتها اليومية لحفيدها الراوي في “الصامت” كانت الجدة صفية تسرد قصصا عن زوجها المنسي تمزج بين الواقع والخيال بطريقة غرائبية، تتحدث عن مآثره وكراماته التي يختص الله بها “بعض عباده الأنقياء المخلصين”، وعن سر البئر التي ألقي فيها، وما زال صوته يتردد منها، فروحه لم تفارق البئر رغم أن مصيره لا يزال مجهولا، ليظل “لعنة” تطارد المحتل وتجعله يخشى مجرد الاقتراب من هذه البئر.
وفي الرواية -حسب أبو سيف- تختلط الأسطورة بالواقع، فبقدر يقيننا أن الصامت أو المنسي هما مجرد شخصيات روائية ابتدعها الكاتب ليحكي حكايته؛ بقدر وقوعنا في وهم التصديق أنهما وجدا في لحظة زمنية نعرفها، فالمنسي قاتل إلى جوار عبد القادر الحسيني في القسطل، وإلى جانب جمال عبد الناصر في معاركه في فلسطين، كما ثار قبل ذلك مع الشيخ عز الدين القسام والحاج أمين الحسيني.
وثيقة أدبية
وقال أستاذ النقد والبلاغة الدكتور محمد أبو حميدة إن الروائي التلولي ابتعد عن أساليب السرد المألوفة لمصلحة أساليب سردية باهرة في روايته “الصامت” التي يمكن عدّها وثيقة أدبية تقف بشموخ في وجه الروايات الإسرائيلية الزائفة.
والتلولي عضو في المجلس الوطني الفلسطيني، وناشط سياسي خاض تجربة الاعتقال في سجون الاحتلال، فضلا عن كونه روائيا صدرت له مؤلفات عدة، أبرزها: “على ضفاف القلب”، و”زمن الشيطنة” و”على مرمى غيمة” و”نصفي الآخر”.