8 October, 2024

حسني مليطات.. تمثّلات المجتمع في التشكيل الفلسطيني

محمود منير

في حوارية بعنوان “تمثيل المجتمع الفلسطيني في المشهد التشكيلي”، نظّمتها افتراضياً يوم الأربعاء الماضي”مكتبة الأرشيف” في عمّان وأدارها عبد الله البياري، ناقش الباحث حسني مليطات ثلاثة مفاهيم أساسية هي: التمثيل لغة واصطلاحاً، والمشهد التشكيلي في الغرب والعالم العربي عبر دراسة نموذج في كلّ منهما، والمشهد التشكيلي الفلسطيني.

أشار الباحث إلى أن التمثيل في المشهد التشكيلي هو جزء تعبيري مهم في تجسيد مظاهر الحياة التي عاشها واهتمّ بها الفنان التشكيلي، بهدف “توصيف الأشياء” التي يمثلها وإعادة تصنيفها، ويقصد بالتوصيف هنا الابتعاد عن الحرفية، وتجسيد الأشياء وفق رؤية الفنان وإدراكه لها، وحتى يكون التمثيل جزءاً من إبداع الفنان لا بدّ له أن يعيش ماضيه، وماضي من يريد أن يجسّد أحداثه على لوحاته، لأن ذلك يساعده أيضاً في “الحصول على أهداف أو غايات أو علاقات جديدة”، يخطّ من خلالها معالم هويته الذاتية، ويعزّز من خلالها معنى “الوجودية” التي سنجدها في اللوحات التي اتخذت من عادات المجتمع وتقاليده المركزية الأساسية في بناء أركانها.

واستعرض مليطات نموذجاً واحداً من الفن التشكيلي العالمي، ممثلاً بالرسام الهولندي نيكولاس مايس (1634 – 1693) الذي صوّر مجتمعه من خلال توظيف تقنية الوصف التشخيصي الذي يعبّر فيه الفنان عن الواقع من خلال رسم شخصيات مختلفة وبهيئات متعدّدة، فالشخصية المرسومة تمثل العلامة الدلالية على الحالة الكليّة التي تعيشها، فنجد في لوحاته ذات الطابع التشخيصي الصورة المفسّرة لحال الكثير من فئات المجتمع، لنشاهد في عمله “امرأة تغزل” الظلّ الذي يحيط بها وضوء الشمعدان الذي يتوسّطه لتظهر ملامح الشخصية التي تعكس جديتها وإخلاصها في عملها، كما وصف مايس الحياة الريفية البسيطة التي كان يعيشها الهولنديون في لوحات “امرأة تنتّف البط” و”امرأة عجوز تصلّي” وغيرها.

أما في المشهد العربي، فتناول الباحث تجربة الفنان السوري لؤي كيالي (1934 – 1978) الذي اشتهر بلوحاته التعبيرية التي تحاكي ذاته وتعبّر عن الحزن الدفين الذي استوطن نفسه، فكانت معظمها بمثابة وصف رمزي لحياته المعقدة، محاولاً أن يثبت من خلالها إنسانيته بعيداً عن اتهامات الآخرين له بالجنون، وغلب عليها أيضاً الوصف التشخيصي الذي يعبّر عن حال أفراد المجتمع من أبناء الطبقة الفقيرة، مثلما فعل في تصوير القرّاء والفتيان البائعين والمتجولين، والفتيات الجالسات، والجدّات، والموسيقيين، ونساء الريف، وفلسطين، بالإضافة إلى لوحاته الأخرى التي تصوّر الطبيعة.

وفي حديثه عن المشهد التشكيلي الفلسطيني، ركّز مليطات على ثلاث موضوعات، هي: استلهام التراث الذي يعدّ أحد العناصر المهمة في تكوين الهوية الثقافية الوطنية الفلسطينية وكان المصدر الرئيس في بناء ظاهرة التخيّل الفني التي تساعد على تعايش أبناء المجتمع هو تراثُ أجدادهم، فهو تأكيد الأنا ضدّ الآخر وإثبات للذات في مقابل الغير ويمنحهم الأصالة ضد التذويب والاغتراب.

والموضوع الثاني، بحسب المحاوَر، هو المكان وقداسته، حيث يُعدّ تمثيل المكان جزءاً من وسائل الدفاع عن هوية الفلسطينيين من خلال إعادة تصوير العلاقة بين الفلسطيني وبيته من جهة، والفلسطيني وقريته ومدينته من جهة أُخرى؛ فالبيت بمفهومه المقدس، هو الحيز المكاني الذي يرمز إلى البقاء والوجود، كما أنه واحد من أهم العوامل التي تدمج أفكار وذكريات وألحان الإنسانية، ويمنح الماضي والحاضر والمستقبل ديناميات مختلفة، كثيراً ما تتداخل أو تتعارض، وفي أحيان تنشط بعضها ببعض، بالإضافة إلى أن البيت يخلق الاستمرارية، ولهذا فبدون البيت يصبح الإنسان كائناً مفتتاً.

وبيّن مليطات أن الموضوع الثالث تمثّل بممارسات الاحتلال، والتي جعل منها بعض الفنانين التشكيليين وسيلة للتعبير عن “حالة المجتمع الفلسطيني”، فمصادرة الأرض، والعنف ضد الأبرياء، وقضية المعتقلين، مواد مهمة يمكن للفنان أن يجد فيها وقائع الحياة اليومية التي تعيشها الأُسر الفلسطينية، ولا سيما أن لكل أسرة في فلسطين حكاية يسرد من خلالها الفنان مشاهد مرئية تعبّر عن آلام ذلك الواقع.

في ضوء هذه الخلفية، قارب الباحث نماذج من الفن التشكيلي الفلسطيني ومنها إبراهيم غنّام (1930 – 1984) الذي اتسمت أعماله بالرومانسية الظاهرة في انفعالاته وأحاسيسه في أثناء تمثيله الحياة اليومية التي كان يمارسها الفلاح الفلسطيني، ولهذا خصص الجزء الأكبر من أعماله لتمثيل “القرية الفلسطينية”، وسرد عاداتها وتقاليدها بمشهد مرئي إدراكي يجعل الناظر “المتلقي” يتعايش مع أجوائها، كما في لوحاته “موسم الحصاد” و”البيادر”، حيث استعان بــ”المناسبات” لتصوير الحياة اليومية داخل المجتمع القروي، والتي كانت مقتصرة على الأعياد الدينية، وختان الأطفال، علاوة على المولد النبوي وزيارة المقامات، ويعبّر عن هذه الأفكار والمعتقدات في لوحات “زفّة النبي صالح”، و”ختان الطفل”، و”الطهور” و”الدبكة الشعبية”.

واستحضر أيضاً تجربة الفنانة تمام الأكحل (1935) التي اتخذت  من مدينتها يافا، الفضاء الرمزي لتصوير “الكيفية” التي كان يعيشها المواطن الفلسطيني في أرضه قبل النكبة وفي أثنائها، حيث تمثّل “شجر البرتقال” المادة الإشارية التي توضح مقصودية المكان، وفي لوحة “يافا عروس البحر”، نلاحظ الحياة الاجتماعية التي كان يعيشها سكان المدينة، كما عبّرت في لوحاتها عن “الحياة العلمية” التي عاشها وما زال يعيشها الطلبة الفلسطينيون، مصورة فيها معاناة الطلبة في أثناء ذهابهم إلى مدارسهم، بسبب وجود الحواجز العسكرية، وجدار الفصل العنصري الذي شكل بدوره جزءاً من مخيال الفنان التشكيلي يعبّر من خلاله عن معاناة الشعب الفلسطيني.

وقرأ مليطات أيضاً تجربة الفنانة فتحي غبن (1947) التي تميّزت بملامستها حياة الريف والبادية الفلسطينية، من خلال تتبّعه الحياةَ اليومية التي يعيشها أفراد المجتمع، ولا سيما النساء منهم، فتختلف لوحاته عن لوحات إبراهيم غنّام في أن الأخير اكتفى بالتصوير العام لأجواء القرية وما فيها من مناسبات، أمّا غبن، فصوّر المجتمع القروي والبدوي عن قرب، بحيث كان تمثيله للحياة الاجتماعية نابعاً من الداخل، فكان كالرسام العليم الذي يدرك يوميات المواطن.

وختم الباحث الجلسة بالحديث عن الفنان كامل المغني (1966) الذي بُنيت أعماله على فكرة “الدمج” بين الواقع والأسطورة، من خلال ربط الرموز والأساطير الكنعانية بالواقع الذي يعيشه المجتمع الفلسطيني، وتأتي هذه الفكرة لتكوّن علاقة المجتمع بتراثه وحضارته القديمة التي نشأ عليها.

المصدر || العربي الجديد 

الرابط المختصر|| https://palfcul.org/?p=3674

Font Resize