24 March, 2025

“المُسعِف” قصة للكاتب نضال خليل

المُسعِف” رواية من دموع وألم، كتبها القاص نضال الخليل ضمن مشروع “حروف اللجوء”، ” الذي أطلقته مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية بالتعاون مع بيت فلسطين للثقافة، حيث تختصر وجع اللجوء الفلسطيني في مخيم اليرموك.

وبين هروبه من الموت في مخيم اليرموك إلى المنفى في ألمانيا، يكتشف أن قوانين البشر أقسى من الموت نفسه، فيبقى وحيداً في قطار غربته، مفصولاً عن عائلته، كأن نصفه الآخر لا يزال عالقاً تحت ركام الوطن

المسعف

 نضال الخليل 

  • جائع …

قالها الطفل وعيناه بغشاوة التعب تتأمل شيئاً ما

الأم تحضنه.. يدُها خائفة تشد على أطراف طفلها تربطه بأصابعها:

  • إلى أين تنظر؟

الطفل:

  • أحصنة تتراكض على سقف الغرفة… سأركب الحصان الأسود أعطني سكين أبي وسأرجع إليك بعدة أرغفة، سأقتل الذين سرقوا مفاتيح الدكاكين في حارتنا أنا روبن هود.

ضاحكا بشفاه متشققة نظر إلى الأم:

  • أنا قوي سأقتلهم.

غابت عيناه عن الضوء.

تشد الأم أصابعها على أطرافه تنغرس بثيابه.. لاهثة:  

  • ابتعدي يا أحصنة لا ترخي سرجك له هو أصغر من يمسك لجامك اتركيه…

ترتخي أصابع الأم من برودة أطراف طفلها تسمع وقع حوافر على ظهر الغرفة.

هناك رأى هذه المرأة الأم وهو يتسابق على الزفت مع أحصنة أخرى ليصل قبلها إلى مصاب أو مريض بسيارة الإسعاف.. الأم هناك إلى جدار تنظر إلى الطريق

  • أحس أنها تنتظر شيئاً

الأم بصوت أقرب للدمدمة:

  • .. طل الخيل والصبي ماطل

قال لنفسه:

  • تنظر خيلا تسافر بها للبحث عن طفلها الذي لم يعد بعد…

قال المسعف لأحدهم:

  • ما رأيته هنا أكبر من كل اللغات… لا أحد يستطيع تصديقه.

الأقوى في الكون البشري سيدان الجوع والموت.. هذان القويان تصارعا لتقاسم القرابين هنا.. ورأيت الموت في مشهد ثانٍ، المسعف للرجال يروي المشهد الأخير

  • لنحاول ادفع بقدميك الركام ستخرج.

الرجل يحاول دفع الركام يقول للمسعف ساخراً:

  • لا أجد قدميَّ ربما هربتا قبلي لا أشعر بهما اسحبني من يدَيَّ ولا تتركني أُدفن تحت هذا الركام فالشواهد لا تعلق فوق الركام وسأُنسى هنا.

المسعف ممسكاً بيديه:

  • ستخرج يا أخي ستخرج وسنأخذك الى المشفى لتستعيد قوتك وستكمل الباقي من عمرك ضاحكاً من هروبك من الموت.

الملتفون حول الركام يحاولون سحب المسعف من بين الركام وأحدهم: وحد ربك لقد مات نصفي السفلي مبتور تحت الركام

المسعف:

  • سمعت صوته أصابع كف دافئة لم يزل حياً.

أذكر أن الرجال أخذوني بعيدا عن البيت المتراكم من انفجار صاروخ من جهة غير معروفة وأكثر ما يرمى من أنواع القذائف والصواريخ على مخيمنا لا تنتمي لجهة فهي منشقة عن الانتماء وتمارس هوايتها القتل بأمر ذاتي.

أخذوني إلى سيارتي وقدمت لي امرأة قليلاً من الماء:

  • وربي هذا الماء نظيف اشرب واغسل ما رأيت واذهب بسيارتك ربما هناك في مكان ما ناجٍ يدعو الله أن تصل إليه.

ركبت سيارتي وبدأت أجوب بين الركام ولا أرى ناجياً، الكلُّ عالقٌ نصفه في الردم والنصف الآخر ذاب في وطن الرمل لتبقى للبيوت هوية.

السيارة تدور وتدور حتى نفذ الوقت وأنا خلعت سترة المسعف.. ركضت إلى أول المخيم، رفعت حديد الحاجز بغضب، لم يسألني العسكري عن شيء، هو يعرفني وأنا لا أعرف سوى رغبتي في الهروب قبل أن تبتلع البيوت نصفي السفلي، فأنا أحتاج إليه لأجلي ولأجل بناتي وزوجتي التي شاركتني هروبي الأول من المخيم إلى إحدى الأحياء القريبة، ومن هناك استأجرت لها سيارة أجرة لتعيدها الى بيت أهلها في دولة مجاورة لتنجوَ هي واطفالي من جنون الموت والجوع.. سأخرج في هروبي الثاني إلى الهجرة.

دخلت مكتب المهرب الشاب دفعت ما أراد وحملني إلى مدينة تطل على تركيا وهناك أطلق   على حكم من محكمة القرية متواطئ يعلق على حبل الإعدام.

وبقيت في السجن للانتهاء من تدقيق الحكم وهويتي وبقدرة الله أعادت المحكمة دراسة لون هويتي وأطلقت صراحي وأحدهم أخذني إلى جهة تركيا وأعاود الاتصال بالمهرب ليحجز لي مكان في المركب المطاطي وأدخل دوامة الهجرة..

اليونان وصربيا ومدن لا أذكر أسماءها وكنت في الوقت الذي أصدرت فيه أوروبا قوانين صارمة لمنع المهاجرين

توقفت في ألمانيا أخيرا، ولكن دون لجوء وطبقت ألمانيا أكثر القوانين صرامة على جواز سفري.

قال المسؤول في بلدية المدينة:

ليس لديك الحق بإحضار زوجتك وأطفالك تحت بند (لم الشمل)

هذه الكلمات أعادت لي ذاكرة ركام البيوت في مخيم اليرموك وتحسست نصفي السفلي هل مازال عالقا هناك.

  • أيها المسعف حتى هنا لم تجد مسعفاً يخرجك من وجعك ويعيدك لوجوه بناتك وطيب زوجتك وستبقى بلا نصفك السفلي فلا طريق لك

ينتهي من ثرثرته رامياً وجهه على زجاج مقصورة المترو متجهاً في جهة لا تعرفه.

Font Resize