6 November, 2024

المعصرة.. رواية العهد المفقود للحكاية الفلسطينية

نابلس- “في الحبْو الأول للزمن الزاحف قريبا من أعتاب العشرينيات من القرن الماضي، ولد إسماعيل لزوجين مفْعمين بالحب، عبد الفتاح وخديجة، وبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى حمل أوزارها، بدأ يشق أشهره الأولى شاقا عصا الحياة حتى خفت عويل المدافع، وانقشع دخان البارود، وأعاد المنتصرون تقسيم العالم، فرسموا من الخرائط الجديدة ما رسموا، ومزقوا من قديمها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا”.

ذلك هو إسماعيل، الطفل اليتيم، بطل رواية “المعصرة” للكاتب الفلسطيني نهاد خنفر، وتلك أقصوصة من حكايتها التي تتشكل وتكبر على يد بطلها بتفاصيل جميلة تتقارب فيها بساطة اللغة مع ألوان التراث الفلسطيني لتشد القارئ.

ووضعتنا “المعصرة” التي صدرت الطبعة الأولى منها مؤخرا عن دار الشامل للنشر والتوزيع بفلسطين وبـ500 صفحة من القطع المتوسط بتلك الحقبة الزمنية (عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي) التي “ظلمت” لحد كبير ولم تنصف كمرحلة وأحداث مهمة بتاريخ الفلسطينيين كالثورة الفلسطينية الكبرى والإضراب الشهير عام 1936.

وتتغذى الحبكة الرئيسية للرواية من خلال حبكات فرعية قوامها بعضٌ من قادة الثورة المحليين وأحوالهم، من فرح وحزن، ندر الطرق إليها بأعمال روائية أو درامية فلسطينية أو عربية سابقة، كالشاعر والقائد الثوري عبد الرحيم محمود وأمثاله “أبو جلدة” و”العرميط” والشاعر إبراهيم طوقان.

البطل اليتيم

كل هذا يحيكه خنفر عبر شخصية الرواية الرئيسية (إسماعيل)، الطفل الذي تيتم مبكرا في قريته “بُرقة” قرب مدينة نابلس بالضفة الغربية، حيث تدور أحداثها الأولى وترصد تفاصيل حياته وكفاحه كبطل شعبي له دوره الاجتماعي والوطني.

وهنا تقدم الرواية -يقول خنفر للجزيرة نت- “سردا سلسا يصور أحداثا وشخصيات حقيقية تنتمي لذلك الزمن بقالب سردي روائي مشوق”.

ولجانب اليتم، يعيش إسماعيل جورا اجتماعيا تتصاعد معه الحبك، إذ تُجبر التقاليد أُم إسماعيل على الزواج من عمه الذي يسومها سوء العذاب، ويزيد ذلك الطفل الصغير سخطا فيقرر الهرب ليلا.

لكن حاله بعد الهرب لم يكن أفضل، فثمة ويلٌ آخر ينتظره داخل معصرة الزيتون بالقرية المجاورة التي جاءها عاملا، وهو استغلال ولؤم صاحبها عليه، لكن ذلك شكَّل انفراجة له عندما رآه الثوار وأعجبوا بحنكته ورباطة جأشه وضموه لصفوفهم لقتال الإنجليز.

وصقلت الحركة الاجتماعية لإسماعيل شخصيته للقيادة والعمل الثوري، ثم صداقته مع “القادة الكبار” بفترة الثلاثينيات أمثال “عبد الرحيم محمود” و”عبد الرحيم الحج محمد” و”عبد القادر الحسيني”.

ووسط هذا يقول خنفر تتطور شخصية إسماعيل بمكتسباتها الاجتماعية والوطنية، وتتوسع رغبته بالانتصار على كل الظروف والعقبات “فكلما أخفقت به الحياة وهوت، كان مرآة نفسه، لم ينتظر يوما أن يبلغه القدر، فقد حافظ على ماء الحياة متدفقا من ثناياه”.

المرأة.. الوحدة.. النضال

ولا تهمل الرواية الجوانب التي حكمت السياسة الداخلية الوطنية، وتتناول المقاتلين العرب “السوريين والمصريين والكويتيين وغيرهم” الذين حاربوا الإنجليز ومشاريعهم الاستعمارية وتمزيق الوطن.

“أعمل جراحو الجغرافيا السياسية مشارطهم في الأجساد المثخنة، يفتحون جرحا هنا، ويخيطون جرحا هناك، كيفما كان، غير آبهين بتعفن الجروح أو تقرّحها ولا استمرار نزيفها أو تشويهها للأجساد، هكذا قسمت الأوطان وشيدت الحدود الوهمية على جسد الدولة العثمانية المتهالك”.

وفي “المعصرة” حضرت الوحدة الوطنية ودور المرأة ونضالها المتنوع، وتوظيف الخط العاطفي عبر قصة الحب التي جمعت إسماعيل وزُهرة (ابنة صاحب المعصرة) وتخللتها تفاصيل أضفت مسحة ناعمة على تجاعيد الحياة وتعقيداتها آنذاك.

ولم تخلُ النصوص من الفكاهة والتناقضات السياسية، وتطرقت الرواية كذلك للنسيج الاجتماعي الفلسطيني بمكوناته الوطني والديني وخاصة في نابلس والشمال الفلسطيني.

وبتركيزه على شخصية الثائر المقاتل المثقف، أراد الكاتب “نفض الغبار” عن قادة وطنيين ومحليين تجاوزتهم أعمال روائية ودرامية، وكأنه يعيد لهم بعض حقهم التاريخي.

بل إن الرواية -يرى خنفر- مبنية على حفظ السرد التاريخي الفلسطيني، وارتبطت بمركز الحدث الذي تشكلت فيه شخصيتها الرئيسية إسماعيل، وهو معصرة الزيتون “معصرة الحياة”.

مثالية.. ولكن!

و”المعصرة” رواية “مثالية” برأي الناقد والروائي الفلسطيني المتوكل طه، فهي حاولت أن تقول كل شيء قبل النكبة 1948، وأظهرت الأحداث والشخصيات كاملة دون نقص “فظل الخيال بالرواية محدودا”.

ويحسب للرواية تقديمها ملحمة مضاءة بجغرافيا فلسطين وبالتفصيل، وصراحتها بعدم ذهابها لتنقية التاريخ من مساوئه كإشارتها “للهامش السلبي” بتعاون البعض مع “الاحتلال” البريطاني.

عاطف دغلس- الروائي والناقد الدكتور المتوكل طه اثناء حديثه خلال عرض الرواية- الضفة الغربية- نابلس مكتبة البلدية- الضفة الغربية- نابلس- الجزيرة نت3
الروائي والناقد الدكتور المتوكل طه أثناء حديثه خلال عرض الرواية بمكتبة بلدية نابلس (الجزيرة)

ورغم أن الرواية اتكأت على الحقائق و”البطل الكامل الذي لا يموت”، فإن ذلك كان على حساب “العمق والتكثيف” يقول طه.

ويضيف أنها -أي الرواية- مرت أفقيا على الوقائع والشخوص أكثر من كونها حفرت عموديا لتبين أسباب وتداعيات وأعماق ما جرى فكريا واجتماعيا وتراثيا وسياسيا، ولم تسبر أغوار كبار شخصياتها وعمق دورها حتى لا تصاب لدى القارئ “بالتسطح والمرورية والاختزال السريع”.

ويقول طه “نحن -الفلسطينيين- مضطرون لحفظ وحماية سرديتنا التاريخية، لأن ثمة محاولات مسعورة تستهدف روايتنا الجمعية وتريد شطبنا، ولعل المعصرة حاولت صيانة تاريخنا بعزم”.

وإن كان طه يرى ضرورة الفصل بين دور المؤرخ ودور الروائي بقوله “تأصيل التاريخ ليس مهمة الروائي وكذلك التوثيق، حتى لا يكون مثقلا بالأحداث”، إلا أن جديد “المعصرة” هو براعة صاحبها بالدمج بين السّرد التاريخي (التوثيقي) والروائية الدرامية، يقول الكاتب المسرحي والدرامي أسامة ملحس.

ويضيف للجزيرة نت أنه أكثر الروائيين المعاصرين تأثرا بالدراما التلفزيونية والسينمائية، بأسلوب وصفي يذهب إلى الدراما المرئية، “فعبر الكلمات نرى مشاهد سينمائية متكاملة العناصر، الحسية والبصرية والسمعية وحتى الملمس والرائحة”.

عاطف دغلس- الكاتب المسرحي والسينمائي اسامة ملحس خلال عرض روايته المعصرة بحفل اقيم بمكتبة بلدية نابلس- الضفة الغربية- نابلس مكتبة البلدية- الضفة الغربية- نابلس- الجزيرة نت2
الكاتب المسرحي والسينمائي أسامة ملحس خلال عرض رواية المعصرة بمكتبة بلدية نابلس (الجزيرة)

ويتفق ملحس مع طرح خنفر بتحويل الرواية لعمل درامي أو سينمائي، وقال إن عناصر القوة الدرامية متوفرة فيها، “فحين تقرؤها سترى الأحداث تتجلى أمامك بدقة”.

كما يظهر خنفر المشاعر والأحاسيس والعواطف عند كل موقف بكلمات جزلة وأسلوب سردي ملون بزخارف البديع والبيان والبلاغة لإخراج الطاقات الحيوية الكامنة لشخصيات الرواية.

و”المعصرة” هي العمل الثاني بعد رواية “فتاة من بابل” للكاتب نهاد خنفر الذي يعكف على إكمال مشروعه بسلسلة روايات لحقبة ما قبل النكبة، وكشف للجزيرة نت عن روايته المقبلة “الملك” والتي تتناول شخصية بطل شعبي يدعى “أبو جلدة” أعدمه الإنجليز عام 1934.

المصدر : الجزيرة
الرابط المختصر|| https://palfcul.org/?p=3129
Font Resize