مهيب البرغوثي
عرضت ندوة بعنوان “القدس في عيون الكويت”، ضمن البرنامج الثقافي لمعرض عمان الدولي للكتاب الذي يقيمه اتحاد الناشرين الأردنيين بالتعاون مع وزارة الثقافة وأمانة عمان الكبرى، في المركز الأردني للمعارض الدولية- مكة مول لارتباط الكويت بفلسطين من خلال تجربة الروائي الراحل اسماعيل فهد اسماعيل، ودور قطاع البريد في الكويت في دعم القضية الفلسطينية.
وتناول الناقد والكاتب الكويتي فهد الهندال في الندوة ورقة بعنوان “حضور القضية الفلسطينية في الرواية الكويتية، إسماعيل فهد نموذجا روائيا” بين خلالها أن لفلسطين صوتها الحاضر في الأدب، عبر الشعر والسرد، والقصة التي كانت أكثر حضورا من الرواية، لكون القصة هي الأسبق وجودا وكثافة في الفن السردي الكويتي منذ خمسينيات القرن العشرين، لكون فلسطين تشكل مبدأ والتزاما لدى الكثير من كتاب القصة في الكويت، فانتشرت عشرات القصص عنها في مجاميع قصصية عديدة لهم.
وفيما يلي نص الورقة التي القاها الهندال:
“إن فلسطين ليست قضية سياسية، وإنما هي تاريخ وهوية ووعي لكل منابع الإبداع في الأدب العربي بما يواكب تاريخها العريق. ولهذا، كانت فلسطين ولا تزال ملهمة في الأدب العالمي والعربي على مختلف الأصعدة الفنية، بما خطه ويخطه من إبداعات في سبيل إحياء المكان عبر الإنسان بمختلف معالمه، صوره، حالاته، ظروفه، قضاياه، وعوالمه الداخلية.
وفي الكويت، كان لفلسطين صوتها الحاضر في الأدب، عبر الشعر والسرد، وسأسلط الضوء في ورقتي على حضورها في السرد الروائي، ولو لم يكن كحضورها الغزير في الشعر الكويتي، وربما هذا نابع من كون السرد اعتمد في بداياته المبكرة على محاولات أولى في انتهاج الكتابة السردية الموغلة بالواقعية دون بقية التيارات الأخرى. إضافة إلى تسيد العاطفة القومية على تلك الكتابات دون الوعي بها بأهمية أن تكون الكتابة مرآة ناقدة، كما أنها عاكسة للمجتمع. إضافة إلى أن السرد كان ما يزال أسير الكتابة دون الخطاب الذي تفرد به الشعر سابقا، مستشهدين بكتاب (القضية العربية في الشعر الكويتي) للأديب الدكتور خليفة الوقيان، حيث خصص فصولا متنوعة عن ما صوره الشعراء الكويتيون لمراحل واشكال النضال الفلسطيني في قصائدهم.
سرديا، ومن خلال العودة إلى المجلات الكويتية القديمة، سنجد هذا الكم من المشاركات الأدبية من قبل الكتاب الفلسطيـنيين، وغالبيـتهم ممن قدمـوا للكويت في فترات متلاحـقة كمعلمين مساهمين بل مؤسسين مساهمين للتعليم في الكويت نذكـر منهم: عدلي البيطار، يحيى العارف، يونس عبدالله، خليل الناطور، يوسف الصالحي، كامل العسلي، حمدي الفوراني وغسان كنفاني وغيرهم. وذلك من خلال نصوص قصصية بقلم أصحابها أو مترجمة عن الإنجليزية للعربية، نشرت خلال الخمسينيات من القرن العشرين في عدد من المجلات الكويتية الصادرة آنذاك.
مقابل ذلك، نجد أن القضية الفلسطينية في القصة أكثر حضورا من الرواية، لكون القصة هي الأسبق وجودا وكثافة في الفن السردي الكويتي منذ خمسينيات القرن العشرين، لكون فلسطين تشكل مبدأ والتزاما لدى الكثير من كتاب القصة في الكويت، فانتشرت عشرات القصص عنها في مجاميع قصصية عديدة لهم.
أما على مستوى السرد الروائي في الكويت، والذي يعتبر متأخرا عن السرد القصصي، حيث يعتبر الأستاذ الراحل إسماعيل فهد إسماعيل المؤسس الفعلي والفني للرواية في الكويت مطلع السبعينيات، ولهذا يعتبر إسماعيل أكثر من حرص على حضور فلسطين إنسانيا في أعماله، عبر شخصيات فلسطينية، إما واقعية كناجي العلي في روايتي (في حضرة العنقاء والخل الوفي) و(على عهدة حنظلة)، أو شخصيات متخيلة مشاركة في رواية (الشياح) ورواية (الحادثة 67) بما تعبر عن الإنسان الفلسطيني الواقع تحت مطرقة الشتات وسندان السلطة مما يعبر عن واقع عربي حتمي ومستحق، يستظل به الكاتب العربي نشر قضاياه، مخاطبا الجيل الآتي من الكتاب والقراء في أهمية تمركز هذا الجرح العربي في كتاباتهم.
في رواية (ملف الحادثة 67)، وقد قدمت كمسرحية من جانب الفرقة القومية التونسية لتنال جائزة مهرجان قرطاج قبل سنوات، يدون فيها إسماعيل تفاصيل التحقيق الذي أجري لبطل روايته وهو خباز من أصل فلسطيني، حيث يتهم بجريمة قتل لشخص فلسطيني أيضا في سرد اعتمد خطي استجواب الحاضر واسترجاع الماضي. ليحاول التحقيق المنشغل بصخب المذياع المرسل لمختلف أنواع الأخبار اثبات تهمة الجريمة على شخص لم يرتكبها في يوم من الأيام فقط لأنه فلسطيني. والمتلقي لهذه الرواية يسبر أغوار عمق الرواية في ما يراه الكاتب من محاولة التاريخ الصاق تهمة الجريمة/ الهزيمة بضحايا الحرب أنفسهم، من شردوا وقتلوا وأسروا ودفعوا ثمن التهجير وفاتورة الحرب دون غيرهم. وما رفض المتهم من الاعتراف بالجريمة، إنما شريعة المحقق ليستمر عليه العذاب. “استمرار الرفض هو استمرار التعذيب”. حتى يصل فيها التحقيق إلى نهايته حيث اعترف آخر تحت التعذيب بأنه الجاني للحادثة 67 ليصرخ الخباز: “أنا لم أكذب يا سيدي.. القاتل.. النيابة.. هو الذي يكذب.. القاتل هو الذي يكذب”.
في رواية (الشياح)، يرسم لنا إسماعيل ملامح الإنسان الفلسطيني بأجيال مختلفة لشخصيات أربع هم (بولص، حنا، إبراهمي، أسعد)، حيث لجأوا إلى بيروت بعدما نجوا من مذابح العصابات الصهيونية والتهجير القسري، ليقعوا في طاحونة الحرب الأهلية اللبنانية، وما كان السرداب الذي اختبأت فيه شخصيات الرواية، سوى مكان ليرصدوا العالم من أسفل، تتقاطع بين شوارعه نوازع حرب الإنسان ضد أخيه الإنسان، إبن وطنه وأرضه، وسط قناصة الحصار وقصف الصراع الداخلي بين الشخصيات فيمن يخرك كل مرة حتى يجلب المؤونة، مع تقصي الخبر من أعلى خارج خبر المذياع من أسفل، حتى تحين لحظة تنفيذ الأربعة لخطة الانقضاض على المسلحين، فيسقط بولص قتيلا دون فائدة من خبرته القتالية، ويجرح حنا الذي يحمله إبراهيم لاسعافه عند المقاومة، ليبقى أسعد الذي كان تائها بأفكاره في عتمة السرداب، يرعى وحيدا أربع نساء ومراهقة وطفل، حتى يسقط أخيرا هو الآخر على الأرض مضرجا بدمه. “الخدر يزحف من أطرافه صعودا إلى الجذع. مع الخدر تملكه إحساس جديد بالسكينة، فصفا ذهنه. “الملحمة الشعرية بحاجة لاعادة نظر جذرية!” وشعر للمرة الأولى بأنه فلسطيني، ليس كما كان في نابلس أو عمان أو بيروت” .
وعن سباعية (إحداثيات زمن العزلة)، يذكر إسماعيل فهد إسماعيل في عدد مجلة العربي 497 تحت عنوان (الغزو والرسم بالكلمات) شهادة للتاريخ ومنصفة عن الفنان الفلسطيني إسماعيل شموط الذي كان مقيما في الكويت:
“حدث الاحتلال. الانشداه والذهول، وكان أن تداعت أصوات طيبة.. فلسطينية وأخرى كويتية لتشكيل لجنة تهدف للتنسيق والتعاون ما بين الكويتيين والفلسطينيين من أجل تحقيق وحدة صف ناس الداخل لمواجهة العدو المشترك. شاءت المصادفة أن أكون أحد أعضاء اللجنة، وشاءت أن يكون الاجتماع الأول في منزل الرسام الفلسطيني العالمي.. عضو المجلس الوطني الفلسطيني: إسماعيل شموط، في منطقة الجابرية.. كان ذلك في اليوم الثامن للاحتلال، وعندما انفض الاجتماع استبقاني إسماعيل لدقائق. أخذني من يدي لإحدى صالات منزله حيث مرسمه. أراني لوحة زيتية قيد العمل.
قال والأسى يغلف صوته: “أنا عاجز عن مواصلة الرسم” صمت برهة. أضاف: “لعل السبب يكمن في توالي هذه الأحداث الجسام التي يعجز العقل السليم عن استيعابها” كانت زوجته الفنانة السيدة تمام قد التحقت بنا حاملة صينية الشاي.. خلال جلسة الشاي انفرجت أسارير إسماعيل قليلا. قال بما يقرب من الدعابة: “ما رأيك والغزو قائم أن تتحول أنت إلى الرسم، وأتحول أنا إلى الكتابة؟!” لم أر مانعا عن الاستجابة وقتها: “وهو كذلك”..اللجنة باجتماعاتها المتواصلة. وما عن لأحدنا أن يسأل بهذا الخصوص.. أشهر الاحتلال، ومن ثم الحرب الجوية، فالبرية.. صبيحة اليوم الثاني للتحرير دخل علي إسماعيل شموط حاملا مجلدا ضخما من الأوراق المطبوعة على الكمبيوتر. قال ضاحكا: “وفيت بوعدي وكتبت”.. فوجئت بالوزن الثقيل للأوراق التي جاوز عددها أربعمائة. تذكرت اتفاقنا الذي هو أشبه بالدعابة. قلت: “لكني لم أرسم!” ضحك ثانية. قال “أدري!”، أضاف: “لعل جهدي هذا يفيدك كروائي”.
تصفحت الأوراق بعد ذهابه. وجدتها كنزا لا مثيل له. كان قد حرص على تسجيل أهم الأحداث والأخبار المتعلقة بالاحتلال والحرب يوما بيوم، سواء منها ما يخص الداخل أوالخارج، لم يترك شاردة ولا واردة.. لحظتها راودتني فكرة أن أكتب رواية تدور بأحداثها حول الاحتلال.. انكببت على حالي أكتب لأعوام ستة دون أن تفارقني أوراق إسماعيل شموط. كانت مصدرا أساسيا فريدا لإلهامي، ورفدي بما يلزمني من معلومات، ريثما تحققت رواية “إحداثيات زمن العزلة”.
أما (على عهدة حنظلة)، حيث يبدأ السرد بصوت ناجي العلي في غيبوبته بعد حادثة الإغتيال، وهو يصارع الموت في رحلة تعيده للخلف، مع تاريخه، سيرته، رفاقه، أفكاره، ويدخل في حوارات متخيلة مع الذات والآخر، في عالم حليبي ضبابي، حيث المكان، لندن، مدينة ضباب المنفى، والزمان، ضباب المرحلة الفاصلة في مسيرة الحياة والنضال، مع رفاقه، إميل حبيبي ورسائله المتوالية، وحنظلة الصغير الذي يسبق حلمه بحاضره الهارب منه. لتتشكل لديه شخصية استوحى اسمها من ثمرة الحنظل، حيث المرارة التي لا تغتفر، كما هو حال مهنته كرسام كاريكاتير يعيش واقعا مريرا ساخرا، على هيئة طفل/ مستقبل يحدق في عبر لحظة ما من تاريخ أمته العربية. ليتنقل ناجي الغارق في غيبوبته الجسدية، الحاضر في غيبوبة جسد أمته، بين مراحل مختلفة من حياته، ما بين الاسترجاع والعودة للحظة فقدان الوعي: “غبت عن الوعي أو غبت فيه.. أشبهني كمن رحل غفلة في عدم غير محدد ليعود منه”.
وبعد، هذه بعض النماذج من روايات إسماعيل فهد إسماعيل، وهي الأغنى في حضور فلسطين سردا وجرحا عربيا وإنسانيا، لعلنا نوفي إستاذنا بعضا من حقه علينا، مؤكدين حرصنا على تشجيع الشباب العربي في استحضار فلسطين إبداعا وهوية وتاريخا في ضمائرنا وكتاباتنا وإبداعاتنا”.
المصدر: الحياة الجديدة
رابط الخبر||https://palfcul.org/?p=5514