13 April, 2025

“الفلسطينيون في تايلاند بانتظار غودو” قصة للكاتب فايز أبو عيد

قصة “الفلسطينيون في تايلاند بانتظار غودو” للكاتب فايز أبو عيد، ضمن مشروع “حروف اللجوء” الذي أطلقته مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية، توثق رحلة عائلة اللاجئ الفلسطيني رياض المفجعة، حيث تتشظى أحلامهم بين دموع الأم وصرخات الماضي، يتركون مخيمهم مرغمين بعد فاجعة موت محمود، حاملين معهم أشلاء الذكريات وأمل البقاء في رحلة مؤلمة نحو تايلاند.

الفلسطينيون في تايلاند بانتظار غودو

فايز أبو عيد

من بعيدٍ صوتٌ يملأ المكان، كانت تعبق منه رائحة البكاء.

– لماذا يا ربي كتبت علينا هذا؟!

– خيراً يا حجة، ما الذي يحدث معك؟!

كانت أم رياض تتحسس المكان بيديها العجوزتين، كانت تبدو حزينة.

يأتي رياض مسرعاً، ووراءه أبوه، كان يجر عظامه بصعوبة، ماذا حصل؟ يقول رياض لأمه.

كانت في هذه اللحظة تحتضن شجرة الياسمين، دموعها قد بللت الأرض، لم تكن تتصور، خروجها من البيت.

رياض قائلاً: لا بأس يا أمي، هذا قدرنا.

كانت كلمة “قدرنا” مستفزة لأمه.

– هل قدرنا وحدنا أن نترك وراءنا أعز ما نملك.

– ليس ثمة شيء يمكن عمله، رد رياض.

– لا حول ولا قوة إلا بالله، قال أبو رياض، وقد أطبق شفتيه بإحكام، انتهى الأمر، كانت ذكريات النكبة ما تزال تدق في رأسه.

حاول رياض ألا يتكلم كثيراً، كان يتوقع ذلك منذ أن بدأت الحرب في سورية وبدأت تطل برأسها من حولهم، متأكداً منه في أعماقه، كان يعرف أمه جيداً، تلك العجوز لم تزل تختزن كما هائلاً من الحب والذكريات، وهو أيضاً كان يقف في رأسه رَتَل طويل من الماضي.

ومع ذلك فقد حاول أن يقف في وجه تلك الذكريات كجدار أصم من البازلت.

فجأة جاء صوت مريم زوجة رياض مقاطعاً:

– لقد جهزنا كل الأغراض.

رياض ينظر لأمه نظرة عاجزة وكسيحة.

– حسناً، سأنزل الحقائب.

ينظر لأبيه، كأنه يرجوه، أن يتنازل عن كبريائه ويجبر خاطر هذه المسكينة ببعض الكلمات.

أشار أبو رياض برأسه إشارة ضعيفة، ثم اقترب من امرأته، كانت خطواته رتيبة، وبصوت هامس حمّله شحنة من الحب الذي طوال خمسين عاماً ظل مخبّأ وراء كومة الهموم التي راكمتها سنوات اللجوء في حي القابون.

– صفية.. نادى أبو رياض زوجته.

إنها المرة الأولى التي ينطق اسمها هكذا، لقد كادت تنسى هذا الاسم منذ أن تزوجت، لقد شعرت في هذه اللحظة بفيض من الحب يغمرها، لقد أعاد هذا الاسم لهذه المرأة ذكريات ظنتها قد انطفأت منذ عقود.

قال لها: صفية، ووضع يده على كتفها، لقد شعرت بحنو لم تعهده من قبل.

ردت عليه: أتذكر، مشيرة لشجرة الياسمين؟!

كانت قد جلبتها معها وهي عروس، وظلت شاهدة على حبهما.

رد بصوت قد امتلأ ببحة دافئة:

– لم أنس، حتى أذكر.

وأكمل:

 – صفية، لابد أن نرحل، ليس من أجلنا، بل من أجلهم، لقد أكد عقله بكثير من المبررات قال لها:

– إنها الحرب يا صفية، أتذكرين.

– وكيف يمكنني أن أنسى يا رشيد.

لقد خسرت صفية أباها وأخاها في حرب لبنان، التي شارك فيها أبوها.

همدت صفية فجأة، كانت تشعر بحاجتها إلى من يقنعها بالرحيل، ثم دار بها تيار عقل لسانها.

وأضاف أبو رياض دون أن ينتظر جواباً:

– سنغادر بعد قليل، امسحي دموعك.

كان يستشعر مرارة جارحة في حلقه، بعد هذه الكلمات، اختنق كل صوت في داخله، كان الرحيل أشبه بالخيانة، ومع ذلك استطاع أن يسكت كل صوت ينتقد في داخله، فالبقاء لن يغير شيئاً.

فجأة رن هاتف رياض:

– أهلا خليل، أين أنت؟

– في الطريق، هل جهزتم كل شيء؟

– بانتظارك.

 كانت أصوات الرصاص تصفر في المكان، لقد بدت الحرب قريبة منهم هذه المرة، هذا هو كل شيء، لقد أخذت الحرب تمد أذرعها كأخطبوط إلى حي القابون الدمشقي، بدأت تغتالهم دون سابق إنذار.

بعد ربع ساعة، كان زمور سيارة يبلغ باب بيتهم، لقد حان الوقت، جاء ابنهم الثاني خليل، يستحثهم على المغادرة، إنهم ماضون للإقامة معه ببيته في بلدة صحنايا.

وبنظرات استقرائية أدرك ما يحدث، كانت أم رياض تبكي، وقد عجزت عن إمساك دمعتها.

 صاح خليل:

– يا بنات بسرعة إلى السيارة.

أسرعت زوجة رياض وابنته على وقع صياحه، هنا نظر رياض لأمه، وتقدم نحوها قائلاً بصوت خفيف:

– البكاء لا يفيد يا أمي.

اعترض أبو رياض:

دعها تبكي، الدمع يفرج الهم.

ساروا جميعاً بخطواتهم التي تعرف مواطئها معرفة حميمة، وقد خيم صمت جنائزي أمام البيت لم يلتفتوا وراءهم.

اغتيلت الذكريات ودمّر المنزل وآن أوان المغادرة

كان رياض في هذه اللحظة قد ألصق رأسه بزجاج السيارة المغادرة بهم إلى لبنان، أخذت الذكريات تنهمر عليه، عاد إلى الوراء، إنه يذكر ذلك اليوم، عندما جاء أخوه خليل إلى البيت، وفجأة بدأ صراخ الأولاد، أخذوا ينادون بأعلى صوتهم:

– جدي جاء عمي.

– طيب…

خرجت العائلة، قال أبو رياض:

– الله يعطيك العافية يا ابني!

كانت ريم ابنة رياض تخشى الاقتراب، أما محمود فكان فرحاً، ضاحكاً.

– ماذا سنفعل به يا جدي، قالت الفتاة الصغيرة.

– سنقتله، صرخ محمود.

وهنا انفجر الجميع ضاحكين من كلمة محمود، قال رياض:

– نذبحه، يا بني وقبل ذلك نقول باسم الله.

وهنا قال الجد:

– يا بني، هذا الخروف هو أضحية نذبحها عندما نريد التقرب من الله.

هنا محمود يسأل بكل براءة:

– هل يأكل الله منها؟

رد الجد:

الله خلقنا وخلق كل شيء، وهو غني عنا، لا يحتاج منا إلى لحمٍ أو ماء، إنما يريد أن يرى مدى حبنا له، لذلك نضحي من أجله.

يسأل الصغير:

– لماذا نذبح الخروف؟

هنا يطلب الجد من الصغيرين الاقتراب منه، ثم يبدأ بسرد قصة سيدنا ابراهيم وولده اسماعيل.

كان الجميع قد جلسوا منصتين لحكاية الجد، وبعد الانتهاء من القصة نادى الجد حفيده محمودا قائلاً:

– يا بني من ضحى بشيء من ماله للفقراء فسيعطيه الله بركة في ماله ويرزقه مالاً من حيث لا يحتسب.

ثم أردف قائلاً:

– بعد غد سترون كيف نذبح الخروف؟

كم كانت سعادة محمود، كانت العائلة مسرورة أيما سرور، لم يكن رياض وأهله يفكرون في السفر، لقد رحل عمه إلى هولندا، ومع ذلك ظل مصراً على قناعاته، حتى كان ذلك اليوم المشؤوم الذي جعل حياة رياض تنقلب رأساً على عقب.

بقي يومان لعيد الأضحى، كان أبو رياض قد اشترى أضحيته، وضعها في ساحة البيت، وفجأة صوت فتاة تصرخ …

– جدي!

كان محمود يحاول أن يخيف أخته بهذا الخروف.

– لا تخفها يا بني، صاح الجد.

وهنا بدورها قالت الجدة:

– بلا شيطنة يا ولد.

زعق رياض بصوت جَهْوري:

– اترك أختك بحالها يا عفريت.

وفي المساء خرجت العائلة لشراء ملابس العيد، كان الصغار أشد فرحا، لقد استعد الحي لهذا اليوم.

جاء يوم العيد، إنها المرة الأولى التي يحضر فيها محمود الصلاة مع جده وأبيه وعمه، كم بدا سعيداً بريئا بملابسه الجديدة!

كانوا بانتظار القصاب، أخرج الجد الخروف أمام البيت، وهناك تجمع الصغار، كان محمود واقفا أمام الخروف حارساً له، يبعد الصغار عن لمسه.

دخل الجد إلى البيت للحظة، وفجأة بدأ الفُتّيش (نوع من الألعاب النارية) يلعلع في المكان، وإذ بصوت انفجار قريب، كان قريباً جداً، ركض رياض بسرعة، اندفعت العائلة كلها، تجمع أهل الحي، وإذ بصرخة تكسر الصمت الذي خيم على المكان، تلتها صيحات.

–  محمود … صرخ رياض

لحقته زوجته وبصرخة ارتجت لها أسماع الحي:

– ابني … يا روحي.. مشان الله لا تروح.

كانت قذيفة هاون قد وقعت في المكان، راح ضحيتها ثلاثة أطفال وجرحى آخرون، قتلتهم ولم تسمِّ عليهم، إنها فاجعة حلت على هذه العائلة وعلى أهالي الحي.

لقد امتزج دم الصبية الصغار بدم الأضحية، اختلط بالتراب، كان كل فرد من أفراد الحي يضغط على أعصابه كيلا تنفجر.

لقد قدم أهل الحي قرابينهم، التي ما فتؤوا يقدمونها منذ وقت طويل.

أمام أنين الأم، التزم رياض الصمت، أحس أن قلبه صار في معدته، كان متألماً حقاً، عاجزاً حقاً، ستبقى نتائج هذه الكارثة المدمرة طويلاً تحتل حيزاً كبيراً من تاريخ هذه العائلة.

ومنذ هذه اللحظة أخذ مصير العائلة يأخذ منحى آخر، بدأت الحرب التي كانت تقف على أطراف الحي وربما أبعد من ذلك تمد يدها بصمت إلى البيوت وتأخذ معها من تشاء من أهلها.

مرت سنتان على الفاجعة، واضطر رياض وأهله إلى ترك الحي والانتقال إلى بيت أخيه خليل في صحنايا نتيجة اشتعال المنطقة.

اتصال مفاجئ يقرر مصير العائلة

ظل رياض يتيه في ذكرياته وهو في طريق رحلته، كان يعود إلى الوراء، إنه يسترجع في هذه اللحظة اتصالا مفاجئا ، ففي إحدى الليالي ، رن هاتف رياض:

– السلام عليكم.

– وعليكم السلام.

إنه عمه صالح من هولندا

– أهلا عمي، عساكم بخير.

– نشكر الله، قلبي عندكم، كيف حالك يا رياض؟

وبعد أن اطمأن على حالهم، شعر رياض باستدراج عمه له:

– إلى متى تبقون في سورية؟

 كان السؤال مباغتاً، كان يشبه في تلك اللحظة رمحاً مسدداً يقف أمامه، لم يعرف ماذا يقول، لم يكن عمه ينتظر منه جوابا، كان عمه قد سافر منذ تفاقم الوضع في سورية، حتى الشظايا التي سكنت صدره رافقته، لم يفكر كثيرا.

 وفي هذا الجو من الضيق، فقد كان رياض مرشدا سياحيا وعلى إثر الحرب توقفت السياحة، صار عاطلا من العمل، كان رياض منفتحا على كل التوقعات، يجيب عمه وعضلات وجهه تتقلص، وبعد دقائق قرر رياض أن يكف عن الاستماع، قال لنفسه:

–  أين تريدنا أيها العالم أن نذهب؟!

حتما هناك خطيئة ارتكبناها، ولكن العالم حافل بالأخطاء، هنا ألقى العم بكم هائل من الخطط التي حضرها وأشرف على تنفيذها من قبل.

– حسناً موافق، قالها رياض دفعة واحدة بلا تردد، أغلق خط الهاتف، ساد الغرفة صمت مباغت، مشى رياض بخطى بطيئة، التفت إلى العائلة وقد أنعشه الحوار:

 – لم أعد أقوى على العيش في هذا الجو الموبوء.

كان يريد الهرب، إلى أي مكان خارج هذا الجحيم، لقد ظلت الأسئلة معلقة في الهواء، وبمنأى عن كل هذه التكهنات، قال رياض:

– تايلاند.

عندها تنفس رياض بعمق، لقد أفلتت منه ابتسامة في تلك اللحظة، بدت براقة جعلت كل من في الغرفة ينظر إليه، لقد استيقظ الرماد في داخله.

 بدا الجميع محشوين بمئات الأسئلة، ورغم ذلك بقوا صامتين، بلا حراك ردد كل واحد منهم.

–  تايلاند.

أخذ وقعها يتضخم في آذانهم، بدأ كل واحد منهم يعلك هذه الكلمة في فمه ويلوكها بلسانه مئات المرات.

كانت تايلاند بالنسبة إليهم بلدا بعيدا، يجهلون موقعه، كانت الفكرة حاضرة في الأذهان منذ مقتل محمود وتدمير منزلهم في حي القابون بعد رحيلهم إلا أن هذا الاتصال قد نفض الغبار عنها، وأعاد إنعاشها من جديد، لقد أثارت كلمات رياض شهية العائلة للحديث، كان عاجزا عن الإجابة على سيل الأسئلة فيما ظل أبوه جالسا، منكفئا على نفسه، الماضي عنده يتداخل مع الحاضر، ومع ذلك لم يتلفظ بأيما شيء، لم يزل يعيش بين الحطام والنسيان والأسى وفجأة قال الوالد:

– الخير فيما اختاره الله، هذه قسمتنا.

ثمة صوت انفجار ما من بعيد، وأعقبته طلقات رصاص، أدركوا في هذه اللحظة استحالة البقاء، فهذه المدينة الكبيرة باتت تلفظ من فيها بعنف.

وهنا قال خليل: الرحلة مكلفة للغاية.

لم يكن الذهاب مجاناً، ليت المنزل لم يتهدم قالت أم رياض بحزن أخذوا يحصون الأشياء التي يمكن بيعها، قرروا الاستدانة، باعوا كل ما يملكونه من مقتنيات وذهب، اضطر خليل إلى بيع سيارته.

المعاناة بدأت من الحدود السورية اللبنانية

كانت الحدود تعج بالمغادرين، إذ إن الحرب غدت سببا قويا لجعل الكثيرين يتخذون قرار الرحيل، اضطر رياض وأهله إلى أن ينتظروا ساعات طوالاً، وعندما حان دورهم، رفض أحد الجنود إدخالهم بعد رؤية أوراقهم، قائلا بصرامة:

– ممنوع دخول الفلسطينيين.

كان الدخول يعتمد على مزاج الضابط المسؤول، وأمام اعتراضهم، تقدّم أحد الضباط نحوهم، كان ضخما مارداً، ومع ذلك لم يكن ثمة ما يوحي تجاهه بما يخيف، لكن هذا الوجه فجأة انقلب واجماً متلبداً عندما رأى وثائقهم:

– فلسطينيون؟!

أشعل سيكارة، حدجهم الضابط بنظراته، دار حولهم كنمر يدور حول فريسة، صار وجهه شيطانيا، أراد رياض الكلام، فما كان من هذا الضابط إلا أنه زجره:

– ارجعوا من حيث جئتم.

وبأسلوب ساخر قال لجنوده:

– جبرتْ (في إشارة منه لاكتفائهم بمن عندهم من الفلسطينيين).

 أدار ظهره ومضى، ظلوا أمام هذا المشهد صامتين، شعروا في هذه اللحظة بعِظَم خطيئتهم، لم يرض أن يشفق عليهم ويخزي الشيطان، بدوا يائسين، إذ إن رحلتهم الطويلة القصيرة قد صارت إلى نهايتها.

قال رياض بصوت مثقل بالهموم:

– ليس ثمة شيء يمكن عمله.

وأردف قائلا:

– سنرجع إلى دمشق، قالها بتردد.

 رد خليل:

– سأذهب لأجد سيارة تقلنا إلى دمشق.

جلسوا صامتين، كان كل واحد منهم يمضغ ذله، قالت أم رياض:

– تأخر خليل!

 أثار تأخره قلق أمه، وفجأة جاء وقد بدت على وجهه علامات الاستبشار، أسرعت أمه لسؤاله:

– أين كنت يا ولدي، لقد قلقنا عليك.

رد خليل:

– خيرا إن شاء الله يا أمي!

أخذ يشرح لهم سبب تأخره، وكيف التقى برجل يدعى بأبي جابر، كان يملك استراحة بين الحدود السورية واللبنانية، وقد علم منه إمكانية تجاوز الحدود مع أحد المهربين.

– ما رأيكم؟

– حسنا، كان إجابتهم جميعا.

قابلوا أحد المهربين حسب نصيحة أبي جابر، وفعلا اتفقوا، لم يكن الأمر صعبا، كان المهرب حاسما في قراراته، طلب ألف دولار ، ومع ذلك بدت الأجرة أمام هذا الظرف ثانوية ، قال خليل :

– ليس أمامنا إلا أن نبلع لساننا ونسكت.

رد المهرب:

– هذه أسعار السوق.

ساروا طوال الليل، كانت ليلة باردة، الصغار يرتجفون، ساروا على وقع خُطا المهرب، كانت العتمة تزداد شيئا فشيئا، لقد أوصى المهرب الجميع بعدم الضجيج، كان السؤال المستمر :

–  الطريق طوي

 يتكرر نفس الجواب:

– ليس طويلاً 

 كم كانت هذه الجبال تعج بالوحشة التي تمددت بينهم ساعات!  كان أبو رياض يتألم بصمت وعجز وشعور بالخيبة، أما أم رياض فقد كانت صفرة تشيع في وجنتيها الناحلتين، لقد جرح منظرها قلب ابنها رياض، أدرك في تلك اللحظة عظم جنايته، الشام كانت وراءه، لم يجرؤ على النظر، كان خائفاً أن تصيبه لحظة ضعف ويعود، قال لنفسه:

– لن أقع في فخ الأسئلة، هل أتراجع، أأعود؟

وراودته رغبة في الالتفات إلى الوراء، أدرك في هذه اللحظة شعور لوط وزوجته وابنتيه عندما أمرهم الله بالخروج من سدوم، كان التلفت إلى الوراء يعني الموت لا محالة.

استمروا بالسير بأنفاس لاهثة، كانت السماء قد امتلأت بدوي راعد، أخذ المطر ينهمر بغزارة، صارت الأرض زلقة، كان بالوسع مشاهدة البيوت مضاءة عبر الوادي، وفجأة حدث ما لم يكن بالحسبان، إنها زوجة رياض، تنادي زوجها:

– تعبت، لم أعد قادرة على المسير.

كانت تمسك ببطنها، حاول زوجها أن يجعلها تتحلى ببعض الصبر وتتابع السير.

قال خليل بنظرة ارتباك: الله يستر ما يكون.

– إنه ليس وقتها، مازالت في شهرها السابع، ردت أم رياض.

أخذ رياض يحث زوجته على المسير، وبعد دقائق، بدأت تشعر بألم شديد، زاد الألم، أسرعت أم رياض نحوها، وقالت:

– المرأة ولّادة!

لقد حار الرجال هنيهة، أسرع خليل هائماً على وجهه، وجد مغارة على بعد أمتار قليلة، التجؤوا إليها، وجدوا بعض خوذ الجنود الملقاة بين الصخور حيث اتخذوها لتسخين الماء، كانت صرخات عائشة زوجة رياض تجلجل في المكان.

– يالله، هانت، قالتها زوجة خليل في محاولة للتخفيف عنها

كانت ولادة عسرة، وفي ذلك الخلاء المبتل وقف الرجال عاجزين، حاولوا تهدئة رياض، كان قلبه ينتفض بعنف، فيما أخذ الجد الفتيات الصغيرات وانزوى جانبا داخل المغارة، كان يقرأ أدعية وأورادا حملها في صدره منذ زمن بعيد.

مضى الوقت ثقيلا باردً، وبدأ الأنين يقل شيئا فشيئاً، وفجأة ماتت كل الأصوات، لم يكتب لهذا المولود أن يخرج لهذه الحياة، كان هذا أفضل له، لقد مكث رياض في مكانه يغتسل بالمطر، رأى ولده محمود يموت من قبل واليوم مات ولده دون حركة واحدة منه.

خيم صمت بارد على الجميع، صرّ على أسنانه كيلا يشكو، كان يسأل نفسه بصمت:

– ماذا بقي من مصائب لم ينزلها الله على رأسي.

كان هناك بين جنبيه كيس من الدموع، انفجر الآن … إنه يبكي ماضيه، إنه يبكي على نفسه، صرخ:

– لماذا، يا ربي!

هنا مضى خليل، حيث احتفر حفرة في هذا الخلاء الرهيب، وألقى بها ذلك الجسد الصغير بأصابع متوترة، مضى بصمت دون مراسم جنائزية.

لقد خمد الجميع بعد ساعات من الوجوم مثل ذُبالة انطفأت بعد أن احترقت طوال الليل، الجوع والبرد كانا كفيلين بتحطيم المارد القابع في دواخلهم.

مضت هذه الليلة الليلاء ثقيلة بما حملته من الهموم، وأتى الصباح، أشرقت الشمس تماما، وقد تسربت من بين أصابعهم،

نهض خليل وفجأة نظر حواليه، بدأ يركض بكل الاتجاهات ثم راح يصرخ بأعلى صوته:

– رياض.. رياض

كان رياض يبدو مثل جثة هامدة، كل ما في الأمر أن المهرب هرب، وقد سرق المال من جيب رياض.

قال رياض بيأس:

– ليس ثمة شيء يمكن عمله

– يا له من نذل قال خليل وقذف شتيمة …رهيبة

بدا الكل صامتين، لقد بدت الكلمات عديمة الجدوى، ومع ذلك فقد صاروا ملزمين بالتقدم إلى الأمام، لم يلق أحد المسؤولية على أحد، وبعد نوبة ضحك، قرروا المضي في طريقهم، لم يكن الطريق بحاجة إلى دليل، فالبيوت أطلت برؤوسها، كانوا جياعاً، أحسوا أنهم أشد جوعاً من أي وقت مضى، أعدت زوجة خليل الطعام المرصوص في بعض الأكياس التي حملوها بدلاً من حقائبهم التي ظلت وراءهم قابعة بصمت.

لم تكن المسافة المتبقية سوى بضعة كيلومترات في ركام الجرود الممتدة، ساروا على الطرقات التي حفرتها أقدام الإنسان وهي تختصر الجبال.

كان خليل يسبقهم بضع مئات من الأمتار، يستطلع الطرقات ويستشرف الآفاق غرباً، وفجأة أخذ يلوح من بعيد، لقد شاهد الطريق الإسفلتي.

تبدد الخوف أخيراً، استطاعوا أن يروا لأول مرة مخيمات اللجوء التي رأوها في الشاشات، دخل خليل البلدة يبحث عمن يقلهم إلى بيروت، لقد وافق أحد السائقين على شحنهم ما داموا يدفعون جيداً، أما رياض فكان في هذه اللحظة جامداً مثقلاً بتبكيت الضمير.

لحسن الحظ كانت أم رياض قد احتفظت ببعض المال سراً، إنها من الجيل القديم الذي يحسب لغدرات الزمن، وصلوا بيروت ليقيموا عند قريب لهم، كانوا ملزمين بالانتظار ريثما يعيدون ترتيب أوراقهم التي تبعثرت في الطريق، بقوا في بيروت يومين، ومع ذلك فقد أخذت رحلتهم تتخذ منحى أسرع، لقد تكفل عمهم في هولندا بدفع ثمن تذاكر الرحلة، فيما أقرضهم قريبهم الذي التجؤوا إليه بعضاً من المال، مضوا لمطار بيروت، وهناك اضطُروا إلى دفع غرامة 100-150$ عن كل واحد منهم، باعتبارهم عبروا الحدود بصورة غير شرعية، هكذا هي التعليمات، كانت انطلاقة الطائرة هي اللحظة التي استطاعوا فيها أن يتنفسوا فيها الصعداء .

بانكوك بوابة المعاناة

 وصلوا إلى بانكوك في وقت متأخر ليلاً، بدت بانكوك جميلة بريئة، أشبه بمارد عملاق، لم يكن يخطر ببالهم أن بانكوك ستتحول فجأة إلى شبح يطاردهم ويطارد غيرهم من اللاجئين هناك.

اضطروا إلى الحجز في أحد الفنادق، فحاجتهم إلى النوم والراحة تغلبت على كل شيء، وفي صباح اليوم التالي قصدوا المفوضية السامية للأمم المتحدة المعنية بشؤون اللاجئين للحصول على حق اللجوء لإحدى الدول الغربية، كانت الإجراءات تبدو سهلة وميسّرة.

بدأت رحلة الذهاب إلى المفوضية تتحول إلى ما يشبه الروتين اليومي، بدأت أيامهم في بانكوك تطول وتزداد كآبة.

كان رياض يصرخ في داخله:

 – لقد قتلتني التصورات الكئيبة

كانت الأسوار المقامة أمامهم تكبر كل يوم، كان هنالك صوت في داخلهم يصيح:

– لن تستطيعوا هدم كل هذه الأسوار جرب من قبلكم يأجوج ومأجوج.

تبدو السماء في بانكوك واسعة، بعيدة جداً، أبنية كأبراج بابل،

ومع ذلك شعروا أنها بدأت تضيق عليهم يوما بعد يوم.

اضطروا إلى السكن في أحد المجمعات السكنية التي كانت تعج بأمثالهم من طالبي اللجوء، كانت هذه الأماكن عرضة لهجمات الشرطة التايلندية في محاولة لاعتقال من كسر التأشيرة السياحية التي كانت لمدة ثلاثة أشهر.

فترة الانتظار في تايلند -التي ارتآها اللاجئون محطة مؤقتة- بدأت تطول، كان جواب طلباتهم من قبل مسؤولي الأمم المتحدة:

– الانتظار.

خُيّل إليه أن صوتا في داخله يقول ساخراً:

–  ستعود.

قال بصوت غير مسموع:

– محال! محال! محال!

أصبحت العودة عدوهم، وجدوها مخيفة أكثر من الموج والعاصفة.

أخذوا يشعرون يوماً بعد يوم بالخوف يتملكهم، رأوا مَن يُعتقل أمامهم دون أن يحركوا ساكناً، كما أخذ المال ينفد بسرعة، كانوا تحت وطأة أزمة نفسية بعد مضي ثلاثة أشهر، لذلك اضطُروا إلى الابتعاد عن أعين الشرطة، والإقامة في حي بعيد، كان المنزل مخيفا جداً، مياه الأمطار تغمر الطرقات، والوضع صعب.

 يمرُّ الزمن عليهم ثقيلا بارداً، البيت الذي قطنوه لشدة الرطوبة، كان أقرب إلى بئر، أما مع هطْل الأمطار، فكان يتحول ما حوله إلى بحيرة من المياه العكرة، فتنتشر منها رائحة نتنة، أحيانا كان هطْل المطر يدوم أسبوعاً كاملاً، فتتصاعد المياه وتغمر بعض البيوت، أما الطين فكان أشبه باللعنة.

مرت سنة وتلتها أخرى، لقد ظلت العائلة حبيسة جدران بيتها، حتى الصغار لم يتلقوا أي تعليم، أما رياض وخليل فقد طرقا الأبواب كلها في بانكوك.

لقد اضطروا إلى العمل في شارع العرب الذي كان يدعى نانا رود مقابل عائد بخس من المال، وبرغم أن رياضاً كان يعمل قبل قدومه تايلند مرشداً سياحياً ورغم امتلاكه لغة إنجليزية قوية فإن ذلك لم يقدم أو يؤخر في شيء، إذ لم يكن يمتلك إقامة.

كان عليهم أن يصارعوا، يكافحوا، يندفعوا إلى الأمام خارج دائرة الخطر.

مرت هذه السنوات، وفي إحدى الليالي كانت الرياح شديدة، بدأت العاصفة، كان هنالك شيء فظيع يحدث في الخارج، وكانت المعلومات كلها تدل على أن إعصارا سيضرب المنطقة، كم كان يخشون من هجمته الذئبية، أخذت الأمطار تصب فوق رؤوسهم، في هذا الوقت الرهيب بدأ الماء يتسرب من الشقوق، وأخذت المياه ترتفع شيئاً فشيئاً، لم يكن أمامهم إلا الفرار، احتملوا بعضهم ومضوا إلى مركز إيواء قريب منهم، عادت ذكريات الحرب إلى ذاكرتهم بقوة، مشهد الهلع والخوف، الليلة التي قضوها وهم يعبرون إلى لبنان كانت مناسبة لما يحدث الآن، كانت المشاهد الدراماتيكية تتوالى، فقد قضت العاصفة  على البيت الذي كانوا يقطنونه، لقد عادوا مرة أخرى لمعاناة التشرد والضياع.

كان رياض قد استسلم، لم يعد قادرا على التقدم ولو لخطوة واحدة، قال بعنف:

– ولكن كيف نظل هكذا؟

كان هناك شيء في داخله بدأ يضعف.

وأردف:

– نحن في دوامة، المياه تدور حولنا، تشدنا إلى القاع، نحن معرضون للغرق.

قال أخوه مستشعرا ضعف أخيه:

– هل عاودتك الوساوس؟!

– وكيف عرفت هذا؟ رد رياض

– أراه في عينيك، في يديك المرتجفتين.

لم يقل رياض في هذه اللحظة شيئاً، ظل واجماً مرتبكاً، منكسراً، عندها خجل رياض من نفسه، صحا من حلمه الكابوسي، بدأ يحكّم عقله:

– ماذا ترى يا عقلي، العودة …. ماذا تقول؟

 وفجأة نظر إلى والده، كانت في عينيه نظرات زاجرة، وفي وجهه تعبير أسيف على ما صار عليه ابنه، ضعيفا ، هزيلاً، لقد استطاعت هذه النظرات أن تحرق الخوف في داخل رياض، جعلته يستعيد عافيته ويرمي الشيطان بالحجر واللعنة.

انتهت الحيرة:

– لن أعود

رد خليل بعنف:

– طبعا لن نعود، العودة تعني الموت، انظر كم ضحينا حتى الآن، انظر إلى أبيك وأمك، انظر إلى زوجتك وابنتك ، ماذا ترى، نحن نستحق أن نعيش بشراً، لن نعود إلى الوراء كي نكون خرافات تُذبح.

كان يحسد أخاه على جرأته في اتخاذ القرار، لأنه أغلق باب العودة وراءه، قرر أن يخوض البحر، كان يعرف واجبه ومسؤولياته.

الشرطة تقتحم منزل العائلة وتعتقل الجميع

انتقلوا للسكن في منطقة أخرى، ومع ذلك ظلوا يقصدون المفوضية على أمل أن يتلقوا رداً، مضت سنتان ونصف على إقامتهم في بانكوك، صاروا يعملون في بيع الخضار.

كان رياض في ذلك اليوم مريضا لهذا لم يستطع الذهاب إلى العمل، كان يشعر بتوعك، لم يمض على بقائه في الفراش أقل من ساعة، وفجأة أصوات غريبة تقرع الممر، كان الصوت أشبه بدوي الرعد:

– افتحوا الباب.

إنهم الشرطة، فجأة تحلقوا حول رياض، تعالت صرخة استغاثة حادة من ابنته:

– أبي! اتركوه

 وتبعتها صيحات النساء عندما أمسكوا بأبي رياض، لتصير الأصوات كلها صوتا واحدا:

– حرام عليكم.

 كانت أعين الشرطة متحفزة، فظة، شرسة، مخيفة أكثر من الخوف نفسه.

أوقفوا رياضاً أمام الضابط، كان قلبه ينتفض بعنف كديك مذبوح، ظل واقفا مكانه لا يعرف ماذا يتوجب عليه أن يقول، ما كان بوسعهم أن يفعلوا شيئا غير ترك أنفسهم مدعوسين تحت بسطارهم، التزموا الصمت، لم يفتح رياض فمه بكلمة واحدة، الدهشة عقدت لسانه، صوتهم يبدو ضخماً محشواً بالبارود.

– جواز السفر، طلب الضابط.

فيما أخذ الضابط يخطو ناظرا حواليه، صورة للقدس معلقة على الجدار، والكوفية الفلسطينية تعتنق رقبة أبي رياض:

– حتما أدرك من نكون، قال رياض في نفسه

اقتادوهم كخراف للذبح، وفي قسم الشرطة، كانت أم رياض تجلس على مقعد خشبي، يطل من عينيها صوت نائح قادم من بعيد، متسائلة:

– ماذا سيفعلون بنا؟

– أمي، سيأتي خليل ليخرجنا، كان رياض يمنّي نفسه بذلك.

في ذلك اليوم حزن رياض مثل النساء، صار مسكينا مثل الدراويش، يصرخ في داخله محتجا، يرقب ما يجري بعيني ميت، لم يزل مريضا ، رأسه يطن من أثر الضعف ، لم يطمع في طبابة، كل ما كان يرجوه أن يُغمى عليه ويستفيق فيرى ما هو فيه كان كابوسا مزعجا، كان والده في هذه اللحظة يبدو رجلا هرما ، صمته بدا مرهقا لأعصاب ابنه، لم يزل يحبس الألم في صدره ويسكت، فيما قعدت زوجة رياض قريبا منه، بكت بحرارة، كانوا جميعا خاضعين لحزن غريب قاسٍ، فكر كثيراً، ووصل في التفكير إلى حد مرعب، ارتجف لهول أفكاره، قال في نفسه:

– هل انتهت الرحلة، حتما سنعود إلى سورية؟

ومع ذلك كان يحس في أعماقه بشيء من الرضا، إذا كان هذا الأمر سيزيل هذه الكآبة عن عائلته، يقول لنفسه:

– لا بأس بالعودة.

 توالدت الأسئلة على دماغه كحبات البرد، تكبر وتصغر ورأسه قفير نحل، وضعوا النساء في زنزانة ووضعوه مع أبيه في زنزانة أخرى، كانت تعج بجنسيات متعددة، لم يكن بينها عربي واحد، مضى الليل ساكناً، وقد بدأ المرض يشتد على رياض الذي همد كجثة ملقاة في فلاة، كان يحس أن الموت يدب في أوصاله.

طالعته عينان ساكنتان، حزينتان، إنهما عينا أبيه، كان يستعجل الصباح، بردت حماسته إلى المكان الذي كان سيلجأ إليه، في وحشة الليل كان أبوه يصلي أمام القمر الذي يبعث نوره في المكان، ناجى رياض بدوره القمر وكل الكواكب من حوله، لم يكن القمر يأبه به، لم يأبه له أحد طوال حياته

قال في نفسه مناجياً:

 – هل يمكن لهذا القمر أن ينجد رجلا غريبا؟

فيرتد صدى صوته مجيبا:

– ليس ثمة شيء يمكن عمله.

شعر بخطئه، استغفر ربه، أخذت الحمى تعاوده، كانت تشويه، ولكن سخونتها نفعته، حاول أن يقيء فلم يفلح، خارت قواه فتوقف عن التفكير، كان يهذي، يتقلب، مثقلاً بالألم  طوال الليل.

وبعد ليلة طويلة أشرقت الشمس ونبتت الأشجار، استفاق رياض، وهو يشعر بجفاف حلقه، أحس أن السماء قد أمطرت عليه، هذه بوادر الشفاء.

– أبي، نادى والده

– الحمد لله أنك بخير يا ولدي.

تم أُفرِج عنهم بعد يومين بعد أن قامت إحدى الجمعيات الإسلامية بدفع الكفالة، لقد استطاع خليل التواصل معهم.

وقد تعاطفوا مع وضعهم.

لا أحد يتحرك من أجلهم

لقد مرت ثلاثة أعوام وهم في الوحل، وكم راودتهم رغبة الالتفات إلى الوراء، العودة لم تعد حلما صارت أشبه بكابوس.

يغتال كل حلم بريء عشش في مخيلتهم، طرقوا كل الأبواب،

ولكن لا حياة لمن تنادي.

إلا أن هناك حدثا مهما كان له أثر في تغيير نفسية رياض، فبينما كان رياض يبحث عن عمل في إحدى الشركات السياحية في بانكوك، التقى هناك بسينتارا مثل الخرافة والأسطورة، فجأة صوت أنثوي ينادي:

– رياض، ألست رياض؟!

التفت وراءه نظر بدهشة، لم يترجم اسمه، كان مقتنعا أنه رياض.

– من أنتِ؟ قالها بتوجّس

– سينتارا، أنا سينتارا، ألا تتذكرني؟!

ارتعش رياض أمام المصادفة الحميدة، لقد عادت به سينتارا إلى الوراء، عندما كان فيما مضى يعمل مرشدا سياحيا في سورية، وقد شاءت الظروف أن يلتقي بمجموعة قادمة من تايلند كانت ضمنها سينتارا، زاروا خلالها بصرى وتدمر وأماكن أخرى استمرت الرحلة أسبوعاً، كانت المجموعة سعيدة بهذه الزيارة.

انتهت الزيارة وعادت سينتارا إلى تايلند، ولم يكن أحد يخطر على باله أن يلتقيا مرة أخرى.

استطاعت سينتارا أن تجد لرياض عملا معهم، لقد تغيرت حال رياض وأهله إلى الأحسن إلا أن الواقع لم يتغير، لقد بدت كل نداءاتهم عديمة الجدوى، لم يتحرك أحد من أجلهم.

يبدو أن قدر الفلسطينيين أن يبقوا ينتظرون كما انتظر فلاديمير وإيستراغون عودة جودو بطلي مسرحية صامويل بكيت.

مكررّين جملة واحدة صارت أشبه باللازمة:”

ليس ثمة شيء يمكن عمله.

مازالت هذه الجملة لسان حال الفلسطينيين في تايلند، إنهم ينتظرون ويرددون كما كان يردد ايستراغون:

(لا شيء يحدث، لا أحد يأتي، لا أحد يذهب، هذا شيء رهيب.)

Font Resize