حاوره: عبدالله الحيمر
تبقى تجربة التشكيل الفلسطيني مبصومة بقضية الاحتلال الإسرائيلي الإحلالي، ونزوع الفنان الفلسطيني إلى خلق عوالم موازية فنية للتعبير عن حريته عبر الخلاص بالفن من عالم يحاول أن يجرده من إنسانيته وهويته وانتمائه. وامتلاك القدرة على خلق عالم تشكيلي /جمالي، بلغة تحمل خصوصيات، إلهام الروح، وتخترق حضور الذاكرة بالتخييل العضوي لتبني منه تجريدا أركيولوجيا يعاش كحاضر محكوم بالأمل. يقهر سردية المحتل في بناء معمار جمالي متخيل عن حضارة وتراث فلسطين الخالد.
الفنان جواد إبراهيم الذي يعيش في رام الله، رساما ونحاتا، خريج الجامعة الأردنية 1977 علم نفس. أقام 14 معرضا شخصيا. والعديد من المشاركات في البيناليات والمهرجانات والندوات الدولية. حاز العديد من الجوائز، اعتمد على رؤية تشكيلية /تجريديّة (للمكان، والذاكرة وللبيئة) كان لنا هذا الحوار معه حول رؤيته التشكيلية.
□ يقول الفنان الألماني لوبيرتز: «الفن التشكيلي أعمى، لا يعيش إلا عبر نظرة المتفرج» كيف تكشف بصيرتك الفنية في وجدان الآخر وفي المحيط الإنساني خصوصا أنك صاحب قضية عادلة؟
■ إذا كان الفن التشكيلي أعمى، فإن الفنان عين دائمة التحديق لا تكف عن البحث والاستكشاف والتقاط الرموز والتفاصيل، التي تعكس البيئة الجغرافية والمنظومة الاجتماعية من قيم وعادات وموروث التي تمثل، الوجدان الشخصي والوجدان الإنساني بمعنى فهم جوهر الحياة وكنه الكون ولغزه. وهذا يتمحور في استخدام الرمز في بناء العمل الفني، وأثره في التعبير وتوجيه عقل المتلقي إلى ما وراء العمل، لتحقيق رؤيتي وسرد روايتي المتعلقة بالحق الفلسطيني وروايتي الإنسانية المتمثلة بقيم الجمال والحق والعدل.
□ عشت تجربة رواية «رجال تحت الشمس» كفنان تشكيلي في صحراء النقب المحتلة، كيف تحدثنا تشكيليا عن الأسر الحضاري للقضية الفلسطينية بعقلية المحتل المحاصرة بسردية مريضة للمكان؟
■ قرعنا الخزان ولم تتوقف أيدينا عن قرعه، حفرنا في جداره ثغرة أوصلنا من خلالها صوتنا وإبداعاتنا المتنوعة وثقافتنا وحضارتنا وروايتنا. أوصلنا كل ذلك إلى عالم أصم، واجهنا السجان بصدورنا العارية وقوة إرادتنا، دفعنا أثمانا باهظة، وفي الوقت نفسه، حققنا إنجازات كثيرة. هذا الكيان لو استطاع أن يتحكم بكمية الأوكسجين التي نتنفسها لفعل، وهو يدرك بقناعة أمام هذه الإرادة والقوة أنه أوهن من بيت العنكبوت.. وأن ثقافته ترتكز على آلة القمع والقتل، ما يؤكد أنه إلى زوال وأن ديمقراطيته وحضارته ما هي إلا كذبة ووهم.
□ عشت تجربة ذاكرة «الجير» البراءة الأولى للإنسان الكنعاني نحو محاورة المخيلة الفنية لتراثه الجمالي والفني المتراكم في القرى الفلسطينية؟
■ كل المواد مستباحة للفنان، وليست حكراً على أحد ولأني أهتم بالتفاصيل وبما يدور حولي فأنا دائم البحث عن مواد ودائم التجريب، سعياً للوصول إلى أعمال معبرة صادمة، تعكس وجداني وتجربتي وفلسفتي وتراكم معرفتي، بالإضافة إلى الحس الإنساني الخاص بالفلسطيني ورحلته القاسية في ظل احتلال قبيح. في القرية، موروث الأجداد، والطبيعة الغنية، وثقافة العمارة البسيطة المستخدم في صياغتها الجير والطين والنيلة. وهذا ما جسدْتُه في أعمال غرفتُ رموزها وثقافتها، من المخزون وذاكرة الطفولة بالإضافة إلى رموز الحضارات التي تعاقبت على هذه الأرض.
□ كانت أعمالك بالحبر الصيني أثناء الانتفاضة الثانية، كأنها تجميع لتفاصيل المكان الفلسطيني بكل تمظهراته الإنسانية، كيف عبرت فنيا هذا العبور نحو أخدود المقاومة بجسد المحتل؟
■ في الانتفاضة الثانية، التفاصيل كثيرة ملهمة لأعمال إبداعية متنوعة. ساحة المواجهات أخذتني إلى الحبر الصيني، الذي يتوافق مع طبيعة الحدث وألوان الشوارع السوداء، من أثر الإطارات المحروقة والأسلاك المتشابكة المتناثرة. وهذا ما عكسْتُه على الورق من رموز وخطوط كثيفة، مثلت قيم التحرر، والأدوات المستخدمة لذلك مثل الحجر كرمز. وفي الجانب الآخر مثلت ثقافة هذا الكيان في القتل اليومي للفلسطيني، أعمالا جسدت المشهد بجرأة وقوة تعبير صادمة، أخذت المتلقي إلى ما وراء العمل لسرد الرواية السوداء التي تعري وجه الاحتلال القبيح.
□ كانت ذخيرتك الفنية غنية عبر ذاكرة موشومة بالرموز الكنعانية والعربية، وألوان الانتماء لأرض كانت ملتقى لحضارات عديدة.. كيف أنجزت مفهومك التجريدي في صياغة أسلوب تشكيلي متفرد؟
■ عمق التجربة وتنوع الخامات المستخدمة والرغبة في التحرر والحرية في العمل، خرجتُ نسبياً من الحدث اليومي في فلسطين، وذهبت ومعي تجربتي وأدواتي إلى التجريد والحرية في استخدام الرموز. التجريد جاء نتيجة بحث وتأمل ودراسة، جذرها سهول فلسطين وبياراتها وزيتونتها ومساحاتها وألوانها ورموزها المتنوعة، والسعي الدائم من خلال ذلك، إلى تحويل الشكل إلى فكرة، وهذا كان يتطلب فهم العلاقة بين هذه العناصر والرموز في العمل الفني والتعبير عنها. وذهبتُ إلى أبعد من ذلك إلى الطبيعة والعمارة والبيئة المحيطة بي وموروثها الحضاري المتنوع، فجاءت أعمالي متنوعة بخامات متنوعة وتقنيات عديدة تحكمها رؤيتي وفلسفتي. فتنوعت تجاربي، ولم أتوقف عند أسلوب معين، أهتم بالتعبير عن الوجدان البشري وليس عن وجداني الخاص بي فقط. أعشق اللون القوي والصريح المعبر، لذا يعرف عني أنني فنان ملون، انحاز إلى الإبداع الحر الذي لا يخضع لقاعدة أو أسلوب معين.
□ يبقى النحت، خاصية شرقية سواء الطيني (العراق) أو الحجري (مصر) كيف أنجزت مشروعك النحتي فلسطينيا بين الموروث الكنعاني/ الفينيقي الفلسطيني والثقافة الفلسطينية المعاصرة؟
■ بحكم موقعها الجغرافي، توارثت فلسطين العديد من الحضارات، التي تركت أثراً في العديد من نواحي الحياة، تمثل في الكهوف والمقابر والنقوش. أحجار فلسطين متنوعة اللون والصلابة، كثيفة الانتشار عبرت عن الهمّ الجمعي الفلسطيني، باستخدامها في بناء العمارة والسناسل الكثيفة لحفظ التربة، وأخيرا كان الحجر رمزاً لمقاومة الاحتلال. من هنا جاء اهتمامي وشغفي بالحجر، فكانت أحجاري فلسطينية المنشأ اخترت منها الوردي والأسود (البازلت) لأعيش مع الحجر متعة الحوار والنحت. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الحجر هو جزء مهم من الثقافة الفلسطينية من حيث استخداماته المتعددة.. عانيت في البحث عن الحجر المناسب للنحت معاناة تفوق نحته، فكانت معظم أعمالي النحتية من أحجار البنايات القديمة، التي عمل عليها أكثر من شخص، فهناك من اقتطعها، ومن نقشها، ثم من بناها وجاء دوري لألتقاطها وأشكلها بأعمال تعبيرية. الجميل واللافت في الحجر هو علاقتي معه، والحوار معه قبل العمل، أثناء بحثي عن تمثالي وشكله وتفاصيله داخل الحجر. لتأتي متعة العمل وإزالة القشور عنه كما يقول مايكل أنجلو، فجاءت أعمالي المعاصرة ملامسة للهم الإنساني والموروث الجمعي..
□ كيف توثق الذاكرة الفلسطينية بصريا في المكان وخارجه؟
■ في فلسطين نتحرك في عالم استثنائي بأحداثه وتفاصيله بتنوع طبيعته وجماليته، نتحرك في مساحة يحكمها احتلال يسعى طوال الوقت إلى اقتلاعنا وكي وعينا. من هنا جاءت أعمالي الفنية، لتحقق تأثيرات نوعية لها القدرة على التعبير والكشف عن الوجدان، بفعل التقاطي لهذه التفاصيل واختزالها في أعمال معبرة دون أن ينفصل الشكل عن المضمون. ثقافتي البصرية ورؤيتي، التي بنيتها بالبحث والتأمل والتجريب والأسئلة الفلسفية، المتعلقة بالكون والحياة والإنسان، كل ذلك كان محصلة لبناء أعمالي المتنوعة.
□ أمام حداثة ملتبسة بالوطن العربي، كيف تحدد مفهومك لحداثة تشكيلية عربيا وعالميا؟
■ جاءت الحداثة، بناء على التطور التكنولوجي والمعرفي المتسارع والبحث الفلسفي، والحداثة مبنية على أسس فلسفية ورؤى وأدوات وتراكم. معرفتي بصيغ إبداعية هي مجروحة، فالمجتمع الذي تحكمه القبيلة والمذهب والطائفة والتاريخ الدموي، لا يمكن أن يلامس الحداثة. فعلى الفنان أن يكون حراً، متمرداً، مواكباً للتطور المعرفي مستلهما من الفلسفة ما يحقق ذلك، ورغم ما يعانيه الإنسان العربي، من أنظمة ديكتاتورية يحكمها المستعمر من وراء ستار، ومن موروث القبيل، استطاع العديد من المبدعين والمفكرين العرب أن يمدوا أيديهم إلى الحداثة. وبدورها الحداثة سحبتهم إليها، أما من يدعي الحداثة، دون امتلاك مقوماتها فهم كثر، يعيشون الوهم وتسويق الكذب الذي لا ينطلي إلا على جاهل، وهذا لا يقتصر على العالم العربي، بل على الكثيرين من العالم.
□ كيف ترى الفن التشكيلي الفلسطيني بين الطموح وإكراهات الواقع تحت الاحتلال؟
■ الفن التشكيلي الفلسطيني، حديث نسبياً ارتبط منذ نشأته بالقضية الفلسطينية ومقاومتها، التي بدورها شكلت رافعة للفنان، وفي الوقت نفسه أسرته برموزها وموضوعاتها، الأمر الذي جعله غارقاً في رموزها وتكرارها، ما أفقدها قيمتها وأحياناً تسخيفها. فلسطين لا تقتصر على القدس، والقدس لا تقتصر على قبة الصخرة وهنا نجد أن غالبية الأعمال تخاطب العواطف، لتسويق العمل وتسويق الذات ويساهم في ذلك الإعلام الموجه. وفي المقابل هناك العديد من الفنانين الذين شكلوا رافعة لفلسطين ولأنفسهم بأعمالهم الإبداعية، فكانت أعمالهم معبرة وناجحة وصلت العالمية بمعاصرتها وقوة تعبيرها. وغالبية هؤلاء الفنانين يعيشون خارج فلسطين، أما جيل الشباب من الفنانين فهو يعيش حالة من الانفصام، ما بين الموروث والمعاصرة فمنهم من نجح ومنهم من قفز في الهواء.
المصدر: القدس العربي
رابط مختصر|| https://palfcul.org/?p=6044