24 March, 2025

“البحث عن قبر” قصة للكاتبة سكون الشاهين

في مشهد يدمي القلوب، يجد لاجئ فلسطيني من مخيم اليرموك، فر من براثن الحرب في سورية إلى لبنان، نفسه حاملاً جثمان طفله، متنقلاً بين المستشفيات والمخيمات، باحثاً عن قبر يضم رفات فلذة كبده، ليكتشف أن الموت لا يساوي بين البشر، وأن قسوة القوانين تفوق قسوة الحرب، فيقرر الهجرة إلى أوروبا بحثاً عن الإنسانية المفقودة في بلاد العرب.

البحث عن قبر

سكون الشاهين

رزان امرأة تجاوزت العقد الرابع من العمر كانت تعمل في مجال التربية والتعليم، وأيضا أديبة متخصصة في كتابة القصص والروايات، والان تشرف على المهاجرين الذين يتجمعون على الحدود الشمالية ينتظرون الوقت المناسب للعبور أملاً بالهجرة والنجاة وبحثاً عن حياة كريمة … وبينما كانت تتجول بين جموع المهاجرين الذين اعتادوا عليها لمحت شاباً في العقد الرابع من عمره يحتضن امرأة يبدو عليها التعب الشديد، لم تراه من قبل وكأنه انضم حديثاً لهم… فضولها ككاتبة دفعها للتعرف عليه والاستماع لقصته…

كان معها بعض الفاكهة وزجاجة ماء، اقتربت منهما وألقت عليهما التحية، عرفت بنفسها قائلة رزان من سورية، وأنتما من أين؟

رد عليها الشاب نضال من سورية أيضاً مخيم اليرموك وهذه زوجتي آمال.

قالت له تشرفت بكما وحمداً على سلامتكما، قدمت لهما الفاكهة والماء واستأذنت أن تجلس معهما. وافق نضال مرحباً

جلست قبالتهما كانت تنظر للمرأة الشاحب لونها المنهكة وكأنها تحتضر بين ذراعي زوجها

سألته قلت لي من اليرموك إذاً أنت من أخوتنا الفلسطينيين

أجابها نضال نعم

سألته وكيف وصلتما إلى هنا

نضال قصة طويلة سأحكي لك كل ما حدث معنا…

إنها الحرب يعني قصف مستمر ربما ننجو من الموت، ولكن مؤكد هناك من يموت غيرنا وبعد أن يتوقف القصف وتتوضح الرؤية ونكتشف أن من مات شخص نحبه جار لنا أو قريب وربما صديقنا المقرب.. ومع ذلك لا نشارك في دفنه لأننا وببساطة شديدة كنا نركض خلف الماء والخبز والطعام، وعندما نصل نتذكر أننا لا نملك ثمنهم، فنشعر بالشبع من الرعب ومن الصراخ موت موت دمار خراب.

هذا حال من يعيش في المخيّم لقد تعبت من فكرة الحرب والموت والخوف….

فأنا إنسان عاش تلك الحرب بكل تفاصيلها من قصف وحصار، وشتات، وخوف، وانتقال متكرر، كل هذا لم يؤثر بي حقيقة الأمر لقد عشت وعائلتي أياماً عصيبة، كنا ننام وكل منا ممسك بيد الآخر، نستمد القوة من بعضنا، ننام في ظلام دامس لا أحد منا يغادر مكانه أو يتحرك منه، كل ليلة نودع بعضنا البعض وننطق الشهادة وننام ولا شيء في ذاكرتنا سوى أن ما نعيشه مجرد أزمة وستمضي، التدمير مستمر، وذكر الله يلهج به لساننا وفي كل صباح نتفقد بعضنا ونهنئ أنفسنا بالسلامة لا وقت لدينا للحزن والبكاء فالموت أصبح عادياً أن نرى الدمار ونسمع أصوات استغاثة من تحت الركام كل ذلك بات عادي، ليس لأننا لا نملك إحساساً، بل لأننا نؤمن أن ما يحدث هو خير لنا جميعاً، كل يوم يزداد الأمر سوءً عن الذي قبله فلا شيء واضح يلوح في الأفق، زوجتي حامل بابني البكر وهي تعاني من مشكلات صحية كما ترين ضعيفة البنية خائرة القوى، فالذي عاشته في الأيام السابقة لا يتحمله أعتى الرجال، فكيف بامرأة ضعيفة البنية تم قصف منزلنا، عاشت حالة الهروب والتنقل بين منزل وآخر هرباً من القصف والاشتباكات والحصار وتقص في الطعام والدواء وقلق دائم، إضافة إلى التوتر والخوف، لذلك قررت النزوح نحو لبنان..  فكل الطرق بين المدن مغلقة في وجهنا كنا نرى كيف تقتل الناس في الطريق

كان الأخوة في سورية يمدون لنا يد العون ويقدمون لنا ما يستطيعون من مساعدة حتى وصلنا الحدود ….

وبعد حوالي أكثر من ١٨ ساعة أمضيناها على الحدود، هذا الوقت الطويل ليس سهلاً علينا فنحن سلمنا أنفسنا للمجهول ولا نعلم ماذا ينتظرنا بقينا في حالة انتظار وترقب حتى أتى ذلك الشخص الذي سيعبر بنا الحدود مقابل مبلغاً من المال ليس بالقليل لابهم المهم عندي حياة زوجتي وابني الذي لم يبصر النور بعد لم تكن الحياة في لبنان بأفضل من اليرموك إلا أنها أكثر أمناً، توقف عن الكلام ونظر إلى زوجته التي أجهشت بالبكاء احتضنها بقوة، كان يرجوها أن تبقى على قيد الحياة لأجله… لم تتمالك رزان نفسها وبدأت تشارك زوجته آمال البكاء… دون أن تعرف لماذا

التفت نضال نحو رزان وهو يقول:

ليس أصعب من أن يفقد الإنسان ابنه إلا أنه لا يستطيع دفنه معاناة لا يمكن لإنسان أن يتصورها، معاناة ليست من الخيال عندما وصلنا لبنان شعرت زوجتي بألم المخاض وهي مازالت في شهرها السابع، رجوت الرجل الذي كان معنا أن يأخذنا لأقرب مشفى، وهنا كانت الصدمة الكبرى العديد من المستشفيات رفضت استقبالنا لم “أعرف لما الرفض هل كانت التجهيزات هي المشكلة أم أنها لهجتي الفلسطينية؟!

“وأخيراً قبلت أحد المستشفيات باستقبال حالة زوجتي بعد دفع المصاريف سلفاً ولد ابني البكر، كانت حالته الصحية حرجة، ويعاني العديد من المشكلات المتعلقة بالتنفس، ويحتاج لبعض الأدوية الضرورية والعاجلة للأطفال الذين يولدون في الشهر السابع، والتي كان ثمن الحقنة الواحدة حوالي 500 دولار. وضع في الحاضنة، إلا أن حالته ازدادت تدهوراً، قال لنا أحد الأطباء إنه يحتاج لتفجير رئة ونحن لا علم لنا بالطب وافقت على ذلك … طبعا بعد دفع المصاريف مقدماً، ولكن توفي ابني “قبل أن يعطى حقنة واحدة.

يتابع بصوت مبحوح يخفي فيه حزنه وألمه “كأنما أخذت قطعة من كبدي، أظلمت الدنيا في عيني. أتى الطبيب إلي فظننت أنه سيخفف عني ما أنا فيه، لكني فوجئت بقوله: عليك أن تبدأ بمعاملات الدفن بسرعة، كان الله بعونك أنت فلسطيني”، “لم أكن أعلم بعد ما كان يقصده ذهبت إلى الصندوق شعرت أن قدمايّ لا تقويان على حملي، وبعد دفع المصاريف الباهظة، بدأنا بإجراءات الدفن سألنا أحد الموظفين لحظة أنتم فلسطينيون؟!

قلت له نعم وما المشكلة؟!

أجاب: لا يحق لكم دفن ابنكم في لبنان؟

سألته: لماذا ما الضرر في ذلك أليست هذه أرض الله؟

أجاب: نعم أرض الله، ولكن يحكمها القانون وقانون لبنان لا يسمح بدفن غير لبناني على أرضه

صدقيني يا أستاذة ظننت أنني أحلم بكابوس أو أني أهلوس، اقترب منه الرجل المرافق لي ليعرف التفاصيل، وسأل الموظف “أين ندفن طفلنا؟! هل هذا كلام؟! ، فأجاب الموظف: أنه يسمح دفنه فقط في المخيّم، أسرعوا إلى هناك فتلك فرصتكم الوحيدة”. شعور قاهر أن تحمل بيديك ابنك، وأنت لا تقدر على دفنه، هل ضاقت الأرض بنا حتى أنها رفضت استقبال ابني، ابني الذي يدخل الجنة دون حساب، لكن البشر بقوانينهم يرفضون منحه قبراً يضم رفاته؟

بعد حوالي الساعة وصلنا إلى مدخل المخيّم، وبعد انتظار لعدة ساعات طلبوا منا إذن الدخول إلى المخيّم “أخبرت العسكري أننا نريد أن ندفن ابننا ونخرج، وهذا الولد على يدي جثة هامدة “. لم يشفع لنا بؤس الموقف. سألته: “ألا يحق لي أن أدفنه؟” ، فأجاب العسكري “هل يتسع هذا المخيّم للأحياء حتى يتسع للأموات؟ هذه هي التعليمات!”.

فما كان منا إلا أن نمشي حول المخيّم ونحن غير قادرين على استيعاب حجم الظلم الذي وقع علينا، حاملين جثة الطفل بين يدينا. كدنا أن ننهار في أي لحظة، فعقولنا ما عادت تتحمل ما يحدث أمامنا، وأثناء سيرنا قابلنا أحد العناصر الذي رق قلبه لحالنا، وأخبرنا أنه في العادة يمنع دخول أحد إلى المخيّمات دون تصريح مهما كان السبب، لكن ونظراً للحالة التي تمرون بها سأسمح لكم بالدخول، من بين السياج بشرط أن تدفنوه وتخرجوا من هنا بأسرع وقت هذه مسؤولية كبيرة.

دفنت فلذة كبدي، كنت بحالة لا يعلم بها إلا الله، لم أقدر على استيعاب ما حصل، فمن قتل ودمار وحصار، إلى تشرد ومعاناة وتضييق فكل شيء ممنوع عنا من الإقامة حتى القبر في بلاد العرب أوطاني لذلك أنا هنا معكم لنعبر الحدود إلى بلاد الكفر والشرك الأكثر إنسانية من هذه البلاد.

https://palfcul.org/?p=14964 رابط مختصر

Font Resize