يعني يجب أن نقتل يا جارنا بلا سبب، ولا يحق لنا أن نعترض على قتلنا، وإذا اعترضنا فسنلاقي نفس مصير من سبقونا؟؟؟
أم يوسف
فايز أبوعيد
نقلا عن قصة حقيقية حدثت في حي السحاري بمدينة درعا في بدايةالثورة في سورية عام 2011.
أشعلتُ لفافة تبغٍ بهدوء، ورحتُ أتأملُ ضوءَ الشمس الناعم بعد الفجر وهو يشق طريقه في الظلمات، وأنصتُّ لصوت العصافير وهي تعلن فاتحةَ يوم جديد، كان صوت جارتنا أم يوسف فقط هو الجلي في السكون، صوتها وهي تلهج بالدعاء بالرحمة على أرواح الميتين.
شعرت بتمازج غريب بين صوت جارتنا وضوء الشمس المنتشر على استحياء، وكأن صوتها جزء من الطبيعة بعد الفجر.
سكنت أم يوسف في الطابق الأرضي، انتقلت له حديثاً، هي امرأة جاوزت الخمسين تشيع قسمات وجهها بالهدوء الصافي، هدوء يشوبه حزن عميق يشي بالكثير من المآسي.
-صباح الخير جارنا.
-صباح الخير أم يوسف، كيفك؟
-من الله بخير، الله يرحم الميتين بس، ويرحمنا برحمته.
-آمين يا رب، تفضلي اشربي قهوة معي ومع سناء.
– يلا بس جهز أولاد علي الله يرحمه ليروحوا على المدرسة.
– الله يرحمه، أهلاً، وسهلاً أهلاً وسهلاً بتنورينا والله.
بدأت رائحة القهوة المنعشة تتسلل من مطبخنا، تلك عادة صباحية لم نتوقف عنها منذ أوّل يوم في زواجنا، كنت أشعر أن زوجتي سناء تستمتع وهي تنهض باكراً وتتجه لتحضير القهوة، وتضع بعض زهرات الياسمين بجانب الفناجين كنوع من الأمل والفرح.
ولجت أم يوسف باب الشَقة، وجلست مقابلي تماماً بينما جلست سناء بجانبي على الشرفة، حاولت مراراً وتَكراراً أن أسحب بعض الحزن من بئر أم يوسف العميقة لأعرف حكايتها، فهي لا تكاد تتلفظ باسم من أسماء فلذات كبدها حتى تلحقه بالترحم عليه أو الدعوة بفكّ أسره، علي الله يرحمه، عارف الله يرحمه، حمادة الله يفكّ أسره، يوسف الله يفكّ أسره.
استلمتي معونة الوكالة يا أم يوسف؟
استلمتها يا جارنا، الله يكطعهن ويكطع معونتهن.
أوف ليش.
ليش؟! الرز مسوّس والطحين كمان مسوس، على الكب الله وكيلك.
يلا بعين الله
طبعا بعين الله يا جارنا، مين بدو يعين لكان العبد الفقير يلي بده مين يعينه.
قالت أم يوسف هذه الجملة وأعقبتها بنظرة حادة نحوي، كانت ملامحها تقول إن اعتمادها بشكل كلّي على القاهر سبحانه وتعالى، أما الناس فهؤلاء بنظرها مكسورون ومقهورون كحالها.
فانتهزت هذه الفرصة وسألتها سؤالاً أخفيه بقلبي منذ أن سكنت أم يوسف في بنايتنا.
أم يوسف، ابنك علي الله يرحمه، كيف مات؟
هو بس علي، علي وعارف والحج أبو يوسف كمان مات من كهره (قهره) عليهن.
طيب بعين الله، الله يرحمهم ويجعل الجنة مأواهم.
شكلك مو حابة تحكي.
صدق يا جارنا، مو رايقة وما بدي أسمّ بدنك على هل الصبح.
بسيطة بعين الله.
رغم الحزن الذي يظلل جفنيها والفقر الذي ينخر العظام ومرض الديسك الذي حنى ظهرها، فإنّ أم يوسف كانت امرأة صامدة وعزيزة النفس، فالإباء يظهر واضحاً في كل حركاتها وسكناتها.
اعتنت أم يوسف بحديقة منزلها أيما عناية، كانت تهتم بها اهتماماً واضحاً ومبالغاً فيه بعض الأحيان، فمن النادر أن أرى عشبة ضارة تنبت بجانب شتلة ما، زرعت أم يوسف الكثير من الأزهار الموسمية، كالحبق والعُطرة والقطيفة والأقحوان، والنباتات العطرية كالزعتر والميرمية والمليسة والمردقوش والنعناع.
شعرت مراراً وتكراراً أن جارتنا الموقّرة تهب حنانها الفائض لتلك الشتلات اليانعة، فهي تراقبها كل يوم بشكل حثيث وتهتم بهن بلا كلل أو ملل. أخبرتني هي ذات مرة، أنّ شجرة الليمون في المنزل أفضل من غرفة، لم أفهم قولها صراحة، لكنها دائماً كانت تقطف ورقة خضراء وتضعها في يدها كما تضع بيدها منديلها بشكل دائم، لدرجة أنني صرت أعتقد أنها حينما تخلد إلى النوم، تنام ويدها مقبوضة على ورقة ليمون فواحة العطر، حتى عندما تكون يدها فارغة من أي ورقة ليمون خضراء أو ورقة عُطرة التي تضعها مع الشاي فيغدو له نكهة زاكية، كنت أشعر أن رائحة الربيع تَضوْع من كفها، ولهذا كنت أناديها أحيانا بقصد أو دون قصد جارتنا أم ربيع.
نعم هي أم ربيع، رغم الحزن الذي يكسو محياها، فهي حقاً تصنع الربيع، أخبرتني زوجتي سناء أن اهتمامها المبالغ في الحديقة هو تعويض عن فقر منزلها بالأثاث، كل ما في المنزل يدلل على البساطة والفاقة الشديدة، بعض الفرشات الإسفنجية المرقّعة، وخزانة خشبية مقشرّة اللحاء لونها بني فاتح جدا، وبعض البطانيات التي قدمتها لها وكالة الأونروا.
وفي داخل كراتين الوكالة، كان أحفادها يضعون كتبهم ودفاترهم المدرسية.
لعلّ كلام سناء يحمل الكثير من المنطق، فجارتنا تصرّ على ضيوفها للجلوس في حديقتها، حتى عندما يكون البرد مقبولا ومن الممكن احتماله، أجدها جالسة تقرأ القرآن أو تسبّح بسبحتها التي لا تفارق كفّها. لأم يوسف جسد ممتلئ مشدود وقامة معتدلة رغم الديسك الذي حنى ظهرها قسراً، وجهها مدوّر وتشوب وجنتيها حُمرة طفيفة، وبياضٌ لافت، تقول أم يوسف “أنا لما أزعل بسمن يا جارنا، شايفلك على هالنكتة”
بعد يوم طويل من عملي الشّاق في شركة الحوالات التي أعمل فيها محاسباً، عدت للمنزل وأنا خائر القوى، وفي الطريق مررت على بقالية اشتريت علبة سجائر لي وفي داخلها رأيت كرات ملّونة معلّقة، اشتريت كرة مطاطية لتيم حفيد أم يوسف، أنا ذات نفسي لا أعرف لم اشتريت له هذه الكرة، ولكنني وددت أن يشعر هو وأخوته وأبناء عمّه بأنهم ليسوا وحدَهم في هذه الحياة القاسية وأن هناك من يهتم بأمرهم.
دخلت المنزل، وجدت سناء قد أعدَّت لي الغداء، تناولت طبقي بسرعة ودخنت سيجارتي بشراهة وذهبت في قيلولتي العميقة.
استيقظت من النوم وأوّل عمل قمت به، هو أنني ذهبت للشرفة ورميت الكرة في حديقة أم يوسف ثمّ ناديت تيم ابن علي، “تيم يا تيم”، فلما أطل عليّ برأسه الصغير، قلت له، “هذه الكرة لك مبروكة عليك، لا تلعب بها وحدَك ولعّب أولاد عمّك معك”. ابتسم تيم لي ومن شدّة فرحته لم يقل لي أي كلمة شكر، لكن الابتسامة على وجهه كانت بالنسبة لي أكثر من كلمة شكراً بكثير.
بعد هنيهة قصيرة، أتت لشقتنا أم يوسف وهي باسمة الثغر، بادرتني بالقول “الله يبسطك يا جارنا مثل ما بسطت هل اليتامى” فأبلغتها أنّ هذا أقلّ من الواجب ولا يستدعي الشكر.
كانت أم يوسف هذا المساء مختلفة نوعاً ما ولديها رغبة عارمة في الحديث.
بتصدق يا جارنا، أنّه كان عنّا محل كبير، تركض فيه الخيل، وفيه كل ما يسرّ النفس ويبهجها من مأكولات وشراب ومعلبات وهدايا وألعاب أطفال. هذا المحل هو ثمرة عمر أبو يوسف، كلّ المال الذي وفّره طوال حياته، وضعه في هذا المحل الذي كان يعتبره مشروع العمر. استمر مشروع العمر لمدة عام واحد فقط، ما بتتخيل حسرتنا وحسرة أبو يوسف على المحل فيما بعد.
في بداية الأحداث اقتحم الحي الذي كنا نعيش فيه، مجموعة من الجيش السوري يقودها عقيد يدعى أ.ع، هذه المجموعة نهبت محلنا وكل محالّ الحارة، عملت فتكاً وقتلاً بالناس بلا سبب، ومثّلت رعباً دائماً للجميع، وفي يوم أسود دخلتْ لمحل الحلاقة عندما كان ابني علي حبيب قلبي يقصّ شعره، وشقيقه عارف يجلس على الكراسي ينتظر دوره في الحلاقة، فطلبت هذه المجموعة من الشباب الذين في صالون الحلاقة أن يقفوا ويديروا وجوههم نحو الحائط، قف.. محلك.. ثابت ولاك.. ولا حركة
قامت برشّهم دفعة واحدة وجميعهم فلسطينية يا حسرتي، الموت يلحق بنا، يفتّش عنا في كل بلد، من قام برشّهم كان عسكرياً أمّياً لا يعرف كيف يفك الخط، له شاربان معقوفان، كل رجائي أن يموت موتة شنيعة كما مات معلّمه المجرم، حيث سقطت عليه قذيفة وقطَّعته إرباً أرباً، أين تذهب أدعية المظلومين والمقهورين، إلى ربّ السماء العادل.
لكن الكارثة لم تتوقف هنا يا جاري، فالمصائب لا تأتي فرادى، بل دفعة واحدة، فبعد هذه الجريمة التي أذهلت كل الحي، نشر يوسف وحمادة على صفحاتهم الشخصية على الفيسبوك منشوراً يتحدث عما حصل من جريمة وحشية وبشعة، وبعد النشر بساعة فقط اعتُقلا وسيِقا إلى جهة مجهولة ولليوم لا حسّ ولا خبر.
يعني يجب أن نقتل يا جارنا بلا سبب، ولا يحق لنا أن نعترض على قتلنا، وإذا اعترضنا فسنلاقي نفس مصير من سبقونا، ولكن يخطر ببالي سؤال ما، لماذا حدث كل هذا؟
ما السبب، وما الداعي وما المبرر، وما النتيجة؟
لقد دفع الجميع ثمناً باهظاً، لا يهم من انتصر في النهاية، لكن المهم هو حجم الخسائر، كيف سأنتصر وأنا أرملة وكيف سأنتصر وأنا ثكلى وهل يهتم اليتامى بالنصر أم بالفقد؟
كيف ستنتصر الأرملة، أنا لا أحدد لمن تنتمي للمعارضة أو للحكومة، وكذلك الطفل اليتيم الذي يرى الآباء يمسكون أيدي أولادهم ويصحبونهم إلى المدرسة أو الحديقة أو المسجد، كيف هو يشعر بمعنى النصر، صدقني يا جاري هم لا يشعرون إلا بطعم المرارة في أفواههم
طعم الخسارة وطعم الفقدان وطعم النقص وطعم الحزن الذي لا يذهب، ففي الحروب الأهلية الخسارة هي للطرفين، أي أن قوات الحكومة عندما تخسر جندياً، فسوريا كلها خسرت هذا الجندي، وهذا الأمر يا جاري ينطبق على المعارضة أيضاً، وعندما تخسر المعارضة مقاتلاً فسوريا كلها خسرت هذا المقاتل.
كنت صراحة أحَارُ بالدعاء، ماذا أقول، هل أقول: “اللهم انصر السوريين على السوريين مثلا”. توقفت أم يوسف هنيهة ورشفت رشفة قهوة، ومسحت بطرف منديلها دمعة ترقرقت من عينيها.
أتعرف يا جاري، أتعرفين يا جارتي العزيزة، كل حلمي بهذه الحياة أرجع لبلدنا بفلسطين.
فقاطعتها زوجتي سناء مازحة “أنت وين يا أم يوسف والعرب وين هو بسمحولنا نرجع علّواه نرجع علّواه”.
صمتت أم يوسف قليلا واستجمعت كلماتها وقالت” أنا بدي أرجع، اسألوني ليش، لأنه يلي بموت بفلسطين هو شهيد ويلي بنأسر هو أسير واله رقمه وأهله بزوروه، واله راتب ولعيلته راتب من منظمة التحرير، أنا بعرف نسوان عمرهن فوق الثمانين بعدهن بحصلن على رواتب أزواجهن يلي استشهدوا بالسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، القصة ليست قصة رواتب ومصاري، لا هي أكبر من ذلك، ففلسطين أولى بدمائنا وفلسطين أولى بأعمارنا وأعمار أولادنا التي ذهبت أدراج الرياح في غياهب السجون، وفي معركة أخذت أرواح من نحب.
ومن ثم اعتدلت أم يوسف في جلستها، وابتسمت ابتسامة صفراء، ثم اعتذرت منّا على انفعالها، واستأذنت بالخروج، لم أقدر أنا أو زوجتي أو لم نرغب أن الطلب منها الجلوس أكثر، فقد أشعلت بنا رغبة عارمة في البكاء.