13 April, 2025

“أمامَ السّتارة” قصة للكاتب معاذ يوسف أسعد

داخل البناء كشّرت الذئاب عن أنيابها وصاروا يدعون بعضهم للنيل من شرفها، وهي لا يعبّر عن صدمتها وقهرها إلا الصراخ حين عرفت أحد الذئاب، فهو الجار القريب

أمامَ السّتارة

معاذ يوسف أسعد 

لأنّها الأكبرُ في المنزل، كانتِ الأبَ والأمّ والأخَ في ظلّ مرضِ والدها المُسنّ ووالدتها العمياء، أمّا شقيقُها الذي يصغرها فكان طالباً يحضّرُ لامتحانات الثّانوية العامّة، في حين تدرسُ أختُها الصغرى في سنتها الأولى بجامعة دمشق..

تواجدُها في المنزل أمانٌ وطمأنينة لوالديها، وأنسٌ لأخويها، لذلك تحاولُ جاهدةً عدم التأخّر خارجه حين تنصرف من عملها في وزارة الزراعة، فتحضرُ مستلزماتِ العائلة من خضارٍ وفاكهة ودواء، ومعظم الأيام تتأخر في الوصول إلى المنزل حين يكون الحيّ الذي تسكنه مسرحاً لسباقِ سقوط قذائف الهاون الخبيثة أو ميداناً لاشتباكاتٍ عنيفة الأمر الذي يدعوها إلى الرجوعِ، فتقضي ليلتها عند خالتها خارج المخيم أو إحدى صديقاتها وهي في وضعٍ نفسيّ لا تحسد عليه، لأنّ قلقها على والديها وأخويها يدمي قلبها …

   في اليوم الثاني وحين علمت من أختها أنّ الوضع في الحيّ أفضل حالاً سارعت لطلب إجازةٍ قبل نهاية الدوام لتذهب إلى البيت وتعرف ما حلّ بأهلها، لم يكن يوماً عادياً، وما كانت تتمنّاه بما يحمل من شراسة وحقد وسوداويّة، فما إن وصلت إلى مدخل شارع الثلاثين حتى فوجئت بسقوط قذيفة هاون على بعد أمتارٍ من مكانها، أصيبت بالانهيار، سقطت أرضاً، حاولت الصراخ فلم يطاوعها صوتها، كُتم كلّ شيء حتى الصوت، عجزت عن الرجوع إلى الوراء لتختبىء خلف أي شيء لكن دون جدوى.

    ساد الرعب في المكان، تغلغل الموتُ في شرايينها من هول المنظر في لحظاتٍ تنافست أصواتُ الرصاصِ والسيارات في المشهد، وامتزج هواء المكان برائحة البارود والموت والصراخ، وهذا لم يمنعها من محاولة الاتجاه إلى منزلها فتوسّلت شابّاً من جيرانها -مع أنه كان يعاني حالتها النفسية تلك- فهو يحاول كما تحاول، ومع ذلك نجحا في الوصول إلى الحيّ في غياب تساقط القذائف ….

   دخلت الشارع حيث منزلها، صدمت ألا بيت أمامها، ركامٌ مخيف، انهارت من جديد حين أدركت ألا أهل أيضاً بعد اليوم، تفجرّت ينابيع عينيها من جديد، انطلق صوتها يجلجل المكان والحضور يحاولون تهدئتها ولكن دون جدوى، لعلّها دخلت حالةً من الزهايمر أو الجنون، بل عاشتهما معاً ..

   حاولت إقناع نفسها أنّ ما تراه هو منامٌ أو أحداث مسلسل، لكن عبثاً عجزت عن القناعة، انتهت كل الآمال، انتهى حلمها بالسفر مع أهلها في الأيام القادمة كما كانت تخطط، غاب الوالدان، اختفى الأخ واختفتِ الأخت في لحظاتٍ مجنونة، في يومٍ قاسٍ، في زمنٍ استنفذت من قلوب البشرية الرحمات، انسلّت مع بداية انسياح دموع الغروب على خدّ هذا اليوم الذي بدأ يتوارى إلى غير رجعة، وقفت وحيدةً، تنظر إلى وجوه المارّة المثكولين مثلها أيضاً، والجميع يبحث عن حلٍّ أو ردّةِ فعلٍ تأتي بخبرٍ سعيد لكلّ من وقف هنا أو عاش هذا المشهد، وبقي ينتظر من فقدَ لعلّه يعود .

في هذه المرحلة أصبحت “كوثر” عند حدود اليأس والانهيار لولا أن ربّتتْ خالتُها على كتفِ الرّحمة فاقتادتها إلى منزلها بجوار جامع فلسطين لتكون الابنة الخامسة وأختاً لابنها الجامعي الذي ما انقطع عن تتبّعِ أخبار أخيها المفقود، الأمر الذي أعطى نوعاً من الطمأنينة وإن كانت تطعنها الغصّة كل آن ..

بقيت “كوثر” في دائرة الحدث وما حصل لأهلها وبيتها وتلك النهاية المأساوية للوالدين والأخت والأخ.

تحملُ هذه الحال إلى مكان عملها كلّ يوم وما يغادرها أبداً رغم اهتمام الزملاء والزميلات بوضعها، هي في عالم آخر غير عالمهم حتى وإن كان عالمهم لا يختلف كثيراً عن عالمها فلكلّ واحدٍ منهم همومه رغم تفاوت فظاعتها وشدتها، غير أن عالمها ملوّن بالسواد والدم والفقد والدموع، فازدادت سوءاً حين اختلف حالُ الخالة التي أصبحت الآمرة لكلّ سلوكات هذه البنت المجروحة بحياتها، وبقيت تتحمّل ذلك مضطرةً على أمل أن يأتي اليوم التالي بخبرٍ مفرح عن أخيها، أملها الأخير، فامتحان الشهادة الثانوية بات على الأبواب وهو الغائب والبعيد..

كانتِ الفرصةُ مؤاتيةً للخلاص من طغيان خالتها، فأهل مخيم اليرموك أحسّوا بخطر الوضع العام، فقرروا بل أجبروا على مغادرة المخيم في تغريبةٍ جديدة أدمت القلوب، قادها الحالُ ككلّ المغادرين لاستئجار منزل في ضاحية قدسيا، حيث معظم الجيران هناك لتبدأ مرحلةً جديدة مع الهمّ والحزن والبكاء، فهي فقدت الأهل والبيت والوطن، نعم الوطن، فمخيم اليرموك وطن الشتات المؤقت ريثما نعود إلى الوطن الدائم “فلسطين”، غير أنّ هذا الحال أربك الأمور وصار الجميع يبكون مخيم اليرموك الذي فُقد الأمل بالعودة إليه، فكيف لوطنٍ مضى على اغتصابه عشرات السنين؟!

   ومع ذلك بقي هاجسٌ واحد يؤرّق وجودها الشاحب، إنّه التفكير المتواصل بمصير أخيها “سائد” الصبي الجميل البريء الودود الذي كانت تدلّله وتحضر له الهدايا والألعاب والمأكولات التي يشتهيها، وتعده دوماً بالأجمل في حال نال شهادة الثانوية:

أين هو الآن؟ أهو حيٌّ أم لا قدّر الله بين ركام بيوت المخيم؟ أم هو بين أيادي عصاباتٍ ربّما ستبتزّها يوماً لإطلاقه؟ هل هو بين الذين ركبوا البحر باتجاه المجهول الذين يتلذّذُ بلحومهم قرشُ البحر بعد أن فرّوا من قروش اليابسة؟

أسئلةٌ وغيرها داهمت دماغها تركت بعدها صداعاً شديداً حطّم حالها، وغدت لا تلوي على شيء.

لمرّتين متتاليتين وقعت ضحية ابتزاز السماسرة، فتبيعُ من ذهبها لدفعه لقاء وعود بإحضار أخيها، بل تفاقم الأمر إلى مساومات استهدفت شرفها الغالي، وكادت توافق مجبرةً من أجل الفوز بحضور أخيها.

وما حزّ بنفسها أنّ أحد المساومين كان صديقاً للعائلة، واعتقدت أنها بأمانٍ على نفسها فسهّل لها الدخول إلى المخيم على اعتبار أنه على علم بمكان احتجاز أخيها لكنها صُدمت بالثمن الذي طلبه منها، لم تعرف كيف يكون ردّها إلا أنها طلبت العودة للتفكير بالأمر، إلا أنّ أمراً غريباً أبداه ذلك الشاب حين اعتذر منها، وتظاهر بأن من يطلب ذلك هم من يحتجزون أخاها، وأسرّ لها بأنه لايعرف إن كان كلامهم صادقاً أم لا.

لكنّه انخرط معهم للاستفادة المالية واللأخلاقية، وفي هذا الموقف لم يحسن إلا أن يستجيب لضميره، كيف لا وهي بنت حارته لسنوات طويلة، فنصحها بالخروج ووعدها إن عرف مكانه سيساعده على الخروج ويخبرها بذلك…

 في هذه الحالة المزرية والمتخمة باليأس عادت أدراجها لتعيش وأحزانها وقد أُغلقت كلّ أبواب الأمل، ولتكون هذه المرّة مع لونٍ جديد من القهر، هي صدمة من نوعٍ آخر في غياب آخر ومضة أمل عوّلت على بقائها، لكن وللأسف هي تواجه تراكمات القساوة والاغتيال والطعن من أيامها التي اعتقدت أنها صديقتها، لكنها تفاجئها بغياب خطيبها، ذلك الشاب الذي ماعرفت معه إلا الأمان على أمل أن يكونا سويّة لبناء أجمل بوابات المستقبل، لكنّ هذه البوابات تتكسر اليوم حين وردها أنه قد تمّ قتله على أيادي الجيش التركي حين كان يحاول التسلل إلى الأراضي التركية عن طريق حدودها مع مدينة القامشلي، هو إضافة جديدة لتعميق الجراح والقهر والضياع، كُسر ظهرها من جديد ونزفت الدموع من جديد أكثر سخونةً، كلّ ما حولها الآن يدعوها للانهيار والانكسار، بل والضياع في هذا العالم الذي صار لايرفع إلا يافطات الدم والغدر والاغتصاب، ففقدت الرحمة والأمان ولا سبيل الآن إلا رحمة من ربّ الرحمات ومن أيادٍ ربّما راحت تبحث عنها جاهدةً لكنها غارت في أودية السوداوية الجديدة . كيف لبشرٍ أن يتحمّل ما يُطلب من “كوثر” أن تتحمّله؟ وكيف لزمنٍ أن يكتبَ على جدرانه بطولات بشرٍ تفنّنوا بانتزاع الرحمة من الصدور؟

وكثيرٌ من الأسئلة تتوارد إلى ذهن كلّ من يتعاطف مع تلك الضحية، وللأسف لا إجابات في زمن اللامنطق.

باتت “كوثر” في حالةٍ لا تُحسد عليها، ألمٌ يجتاحُ جسدها، وألمٌ يراقصُ وجودها، صارت تراودها أفكارٌ سوداويّة غريبة، أفكارٌ لا تخطرُ على بال إنسان إلا في مثل حالتها، تقاذفتْها تلك الأفكار فتأتي لها بنهاياتٍ باعتقادها مريحةً مرّة وقاسية مرّة أخرى…

فكرّت بالانتحار لأنه أقصر الطرق للخلاص، وفكّرت بالّلحاقِ بمن اتجهوا إلى البحر فارّين من هول الموت، حتى وإن أصبحت نهايتها في جوف القرش البحري، فهو كما تعتقد أكثر أماناً من بقائها قرب أو بين أنياب قروش الأرض التي تتلذّذ بعقابها بأنواع كثيرة من هذا العقاب…

ولكنّها وفي بعض الأحايين تخلدُ إلى رأي العقل الذي يحضر بعض لحظاتٍ يقودها إلى واحة مفترضة من الأمل الذي أقرّت بأنه ضاع بضياع الأهل والأخ والخطيب؛ بل والعمر….

وكانت في هذه البرهة من التفكير تعتقد أن الجميع بخير سواها لكنها لم تعلم أن هذه الحال طالت الكثير والكثير، وخاصّةً أبناء جلدتها ودمها في مخيمات اللجوء التي استحالت معسكرات للعصابات ومن كل جنسيات الأرض، وصاروا تجّار حروب لا يهمهم العِرض والشرف والإنسانية…

لعلّ ما يحدثُ هو تغريبة جديدة، ولكن هذه المرّة على أيادي أبناء عمومتنا وأشقائنا العرب الذين جعلوا من الساحة السورية ميداناً مناسباً لتصفية حساباتهم دون الاهتمام بنتائج هذه اللعبة على الطفل والمرأة والعجوز، ودون الاهتمام بسعادة العدوّ المشترك لنا بما يحدث.

لأوّل مرّة يصرُّ جرس الجوّال على عدم السكوت، لا تريدُ الاستجابة لكنّها بتثاقل فتحت جوّالها:

– نعم، مَن؟

– أتريدين مشاهدة أخيكِ؟

تجمّدت ركبتاها، لم تحسن النهوض.

– هل هو حي؟ أين؟ متى؟ مَن؟

– اهدئي.. غداً صباحاً ألتقيكِ عند دوّار البطيخة في مدخل المخيم السادسة صباحاً.

حاولت التحاور مع المتكلم لكنه أغلق الاتصال.

أمضت طيلة الليل بين أسئلةٍ وإجابات..

طال الليل لأنها قررت الذهاب مهما كانت النتائج..

وصلت صباحاً إلى المكان، تقدّمت منها سيارة فيها شابّان ملثمان، أمراها بالصعود دون الكلام، حاولت الاستفسار لكنّ أحدهما أشار بأن تصمت…

كل ما عرفته أنها وصلت إلى مدخل شارع لوبية، وأنها اقتيدت إلى بناء حيث وجود أخيها كما قالوا لها..

داخل البناء كشّرت الذئاب عن أنيابها وصاروا يدعون بعضهم للنيل من شرفها، وهي لا يعبّر عن صدمتها وقهرها إلا الصراخ حين عرفت أحد الذئاب، فهو الجار القريب وأدركت فيما بعد أنه الذي حادثها بالجوال…

ماكان منها إلا الاستسلام لعلّها تكون النهاية للحياة خوفاً من القتل، وكان لها ما أرادت ولكن يالها من حياة، وياله من عار ومن وصمها بالعار من كان بالأمس الصديق والجار وشريك لقمة الخبز….

ألقوها في المكان الذي اقتادوها منه في الصباح، وجادوا عليها بربطة من الخبز من غير أن يعرفوا أنّ هكذا خبز هو مرارة لأنه قُدّم من خائن…

تركت خبزهم واتجهت دون معرفة الاتجاه القادم أين سيقودها، عاد جوالها من جديد يصدر أنغامه لكنها كرهت النظر إليه، وبعد إلحاح نظرت إلى الرقم فعرفت أنه رقم زميلتها في الوظيفة، أغلقت الجوال لأنها لم تكن تملك القوة للحديث، فماذا ستقول؟ وماذا ستخبر صديقتها؟ أغلقت جوالها واستمرّت بالمسير وأنهارُ عينيها تغرقان خدّيها الممزقين بفعل الذئاب، وعرفت أنها بحاجةٍ إلى طبيب أو دواء لكن وكيف لها أن تحدّث الطبيب أو الصيدلاني بسبب ما تعانيه؟

الطريق يبدو طويلاً أمامها الآن، والمارّة عنوان للرعب باعتقادها.

شريطٌ من الذكريات تتقافزُ محطّاته أمام عينيها الآن، وهي تسير في الطريق بلا هدىً، يعيدها جرس الجوال إلى واقعها المرير، هي زميلة الوظيفة من جديد..

– ببكاء وارتجاف..نعم سلوى!

– أين أنتِ؟ هيا وبسرعة، نحن بانتظارك، لكِ مفاجأة كبيرة.

– يرتجف صوتها، وما أكثر المفاجآت هذه الأيام! حتى أنت يا سلوى؟ تغلق الجوال وتمضي بدون معرفة وجهتها…

يعاود الجوال، ينطلق صوت سلوى.

– أخوكِ عندي الآن وينتظركِ.

هو لا يعرف أين أنتِ، أسرعي.

– أخي؟ ماذا؟ تنظر حولها، خافت كثيراً، لعلّ الذئاب حولها على صورة سلوى…

– هيا كوثر، تعالي مباشرةً .

وإن لم تصدقي تفضلي وتكلمي مع أخيكِ.

– كوثر! كوثر!

صدمة كبيرة، هو صوته حقّاً، حبيبي أنت بخير؟

أنا قادمة إليك، تعدو بسرعة تقفز بين السيارات بلا وعي.

تلفت أنظار الجميع، تركض مسرعةً وصوت نحيبها يعلو أكثر فأكثر….

  تحاول إيقاف سيارة للوصول بسرعة إلى الوزارة، تتعثّر بين السيارات، تصدمها سيارةٌ مسرعة، تلقيها إلى الجانب الآخر من الطريق، يسقط رأسها على حافّة الرصيف، تتفجّر ينابيع دم رأسها، يحاول البعض الإسراع بنقلها إلى المشفى لكنها على نحوٍ ضبابي صارت تتخيّل أخاها بين يديها ويقودها إلى حيث الأمان هناك، في منزلهما في مخيم اليرموك، لعلّه هاجس حبّ البيت والمكان، تجد نفسها بين والديها وأخويها وجيرانها، فتطول تلك الغفوة معلنةً عنواناً جديداً وشكلاً جديداً للتغريبة الفلسطينية.

Font Resize